صوت الملايين من العراقيين يوم السبت الماضي في أول استفتاء حقيقي يجرى حول الدستور في تاريخ بلادهم· وبالرغم من مخاطر الانفجارات والعنف التي يطرحها الإرهابيون، إلا أن المواطنين العراقيين خرجوا فرادى وزرافات كي يدلوا بأصواتهم ويمارسوا حقا يعتبر بديهيا من وجهة نظر كثيرين عبر العالم· وبالنسبة للأميركيين الذي اطلعوا على مسودة الدستور فسيجدون العديد من المواد مشابهة لما عندهم، لكن الأهم من ذلك كله هو أن الدستور كتبه العراقيون من أجل العراقيين· وهو من أجل ذلك يمتلك حظوظاً وافرة كي يتحول إلى ميثاق وطني يكفل الحرية والسلام والديمقراطية للعراق·
ونص الدستور على أن العراق بلد اتحادي غير مجزأ يرسخ مبدأ فصل السلطات بين فروع الحكم ومستوياته، حيث تتمتع الحكومة المركزية بصلاحيات تشبه تلك الممنوحة لحكومتنا الفيدرالية هنا في الولايات المتحدة· هذا بالإضافة إلى امتلاكها للسلطة الحصرية على الدفاع الوطني والسياسة المالية والشؤون الخارجية وعلى جباية الرسوم الجمركية، فضلا عن إشرافها على القضايا المتعلقة بالجنسية والتجارة الداخلية· كما أقر الدستور حق كافة العراقيين في ثروة بلدهم دون تمييز، وكلف المحكمة العليا بمهمة تفسير القانون العراقي· وبالرغم من أن الدستور يجيز تشكيل حكومات محلية جديدة، إلا أن الصلاحيات المخولة لها لا تتداخل مع السلطة العليا التي تمارسها الحكومة المركزية· ولم تأتِ هذه المواد لتعكس مصالح الأكراد والشيعة فحسب، بل جاءت لتستقطب العرب السنة وتشجعهم على المشاركة في العملية السياسية· لذا نص الدستور على أنه ''الضامن لوحدة العراق''، وأن الحكومة المركزية مسؤولة عن ''الحفاظ على وحدة العراق وسلامته واستقلاله وسيادته''· وللتأكد من أن عملية اجتثاث البعث لن تخرج عن إطار ''العدالة والموضوعية والشفافية'' شكل الدستور لجنة خاصة تشرف على تلك العملية· علاوة على ذلك تم إقرار اللغتين العربية والكردية كلغتين رسميتين تستعملان في المؤسسات الحكومية في المنطقة الكردية·
ولتحفيز السنة على المشاركة المكثفة في انتخابات الجمعية الوطنية المقرر عقدها في شهر ديسمبر المقبل قرر السياسيون العراقيون ترحيل عدد من القضايا المهمة إلى مرحلة لاحقة، حيث ستقوم الجمعية الوطنية بالبت في عدد قضاة المحكمة العليا وتحديد آلية اختيارهم، فضلا عن إنشاء غرفة تشريعية ثانية· ويذكر أنه لن يبت في إحداث تلك المؤسسات أو غيرها إلا بعد تأمين موافقة ثلثي الأصوات داخل الجمعية الوطنية· وإلى جانب ذلك ينتظر من الجمعية الوطنية أن تقوم ببلورة السياسات الخاصة بكيفية إدارة الموارد النفطية والغازية والحفاظ عليها· وفي حال المصادقة على الدستور اتفق القادة السنة والشيعة والأكراد على تشكيل لجنة يعهد إليها باقتراح تعديلات جديدة تطرح على العراقيين في استفتاء وطني خلال الصيف المقبل·
وقد تم تعديل القانون الانتخابي لضمان تمثيل أكبر للسنة في الجمعية الوطنية، حيث كان القانون القديم يركز على نسبة الإقبال في الانتخابات، وهو ما نتج عنه تمثيل ضعيف للسنة في الجمعية الوطنية الحالية· ويهدف القانون الجديد الذي يشبه القانون الانتخابي في الولايات المتحدة إلى توزيع المقاعد وفقا لعدد السكان، وليس اعتماداً على نسبة المشاركة في الانتخابات· وما أن لمس العرب السنة الجهود الكبيرة التي تبذل لتهدئة مخاوفهم حتى شرعوا في الإقبال على العملية السياسية والمشاركة في تحديد معالمها، حيث شهدنا طيلة الشهرين الماضيين انخراط الأحزاب السنية في تعبئة الناخبين للفوز بأصواتهم في انتخابات ديسمبر المقبلة· وحسب الناطق الرسمي باسم اللجنة العراقية للانتخابات شكل تسجيل السنة في اللوائح الانتخابية أرقاما غير مسبوقة، خصوصا في الفلوجة والرمادي·
ولم يكن ممكنا أن تتحسن آفاق إقرار الدستور في الأسبوع الماضي لو لم تعلن الهيئات السنية الكبرى مساندتها للدستور مثل الحزب الإسلامي العراقي، ومؤسسة الوقف السني· ولم يأت هذا التغير في موقف السنة لصالح الدستور إلا بعدما وافق القادة الشيعة والأكراد على إدخال مجموعة من التعديلات استجابة لمطالبهم، وهو ما يستحق منا تقديراً كبيراً لما أقدموا عليه من تنازلات، ولما أبدوه من حرص بالغ على مراعاة مصالح السنة وإنجاح الدستور العراقي وتأمين مساندة كافة الطوائف العراقية· وقد أثبت هؤلاء القادة امتلاكهم رؤية شاملة تشرك جميع ألوان الطيف العراقي في تقرير مستقبل بلادهم· ولكن ماذا لو لم يتم إقرار الدستور العراقي، رغم كل المؤشرات الإيجابية التي ذكرناها؟ حتى لو حدث ذلك فلن يتزحزح العراق قيد أنملة عن مسار العملية السياسية، ولن يحيد أبدا عن طريق التوافق السياسي الذي اختطه لنفسه، حيث ستحافظ انتخابات الجمعية الوطنية على موعدها في ديسمبر المقبل تحت القانون الانتخابي الجديد· وسيعهد للجمعية الوطنية المنتخبة بصياغة دستور جديد يطرح في السنة المقبلة للاستفتاء أمام العراقيين· ومهما يكن فستواصل العملية السياسية توسعها لتشمل كافة مناطق العراق وتعزل أ