لم تكف والدة الزميلة الشهيدة-الحية, الصامدة مي شدياق, منذ إخبارها بأن ابنتها وسندها اليمين في الحياة فجرت وبترا يسراها, يداً وساقاً, وحرق وجهها وجسدها, لم تكف هذه المسنة الرقيقة عن طرح سؤال على كل من يحاول أن يواسيها, ويسألها عن صحة ابنتها. ليش مي؟ "شو عملتلهم" مي؟
نفس السؤال يطرحه كل من يحاول الاقتراب من لغز التفجيرات التي تهد لبنان واللبنانيين منذ سنة. اللغز يحله ويحلله اللبنانيون مع كل نشرة أخبار, ومع كل تفجير جديد.
الكل يعرف أحاجي اللغز, والكل يعلم من يختبىء أين, وكيف, ولماذا؟ ومن يفجر من, وكيف, ولأي هدف؟. والكل يحكي... ولا أحد يقول. البعض الذي كان يلمح أدباً, ربما, أو خوفاً بالتأكيد. هذا البعض بات يفصح, إلا أنه إفصاح لا يقدم ولا يؤخر, ولا يجر المجرم القاتل الى مشنقة أو زنزانة. هو بوح "يفش" الخلق فقط, ويسكّن الوجع... لدقائق, مثل تلك الأعرابية التي كانت تطهي الحجارة بالماء موهمة أولادها بأن في القدر... دسماً.
والغريب أنه كلما اقترب موعد "التفجير الميليسي", كلما انتشرت أقاويل تفيد بأن التحقيق تم, ونتائجه ستعلن, ولكن هذا لا يعني أن الشرطة ستتوجه الى جحر-مثل جحر صدام- أو الى قصر لـ"تشد" الرأس الكبيرة, وكان الله يحب المحسنين. ويقابل هذه الترنيمة, موشح يقول إن نتائج التحقيق عندما تعلن ستطيح برؤوس, وستحدث زلزالاً مقياسه 9 ريختر. أو ما يساويه.
والى أن يحين موعد "التفجير الميليسي", ليت العالم يستوعب أن الرسالة وصلت وفعلت فعلها في اللبنانيين, وهم يرون الحكومة التي انتخبوها عاجزة, تتسول يميناً وشمالاً من يأتي الى لبنان ليحميه ويحمي من بقي فيه من أمثال مي شدياق ووالدتها.
الرسالة وصلت, واللبنانيون يتناولون المهدئات مع وجبتي الصباح والمساء. يعيشون على الأخبار, وبين نشرة ونشرة يتوقعون دوي انفجار, وتعديلا في أسهم بورصة الانفجارات, ويتساءلون هل من ضحية جديدة على المؤشر؟
الرسالة وصلت, والناس في لبنان خائفون, لا يريدون استبدال السوري بالفرنسي أو الأميركي, مثلما حاول ابن الجنوب في الماضي استبدال الفلسطيني بالإسرائيلي. الرسالة وصلت, والناس في لبنان تنام على الأخبار وتصحو عليها وبين نشرة وأخرى تلعب بورصة الانفجارات بالأعصاب المشدودة.
وهنا نعود الى أم مي, والى سؤالها: لماذا مي؟ و"شو عملتلهم" مي؟
الجواب يا أيتها المذبوحة الموجوعة, أنه تم اختيار مي لأنها تدخل صباحاً الى كل البيوت, وكل لبناني يشرب معها القهوة, في الصالون أو المطبخ أو غرفة النوم. هي مي, التي اختاروا أن يقطعوا أوصالها ويحرقوا ابتسامتها الحاضنة, لأنهم بذلك يكونون قد قطّعوا أوصال كل واحد منا, وأطفأوا نور كل الابتسامات.
و"شو عملتلهم" مي؟ مي, تحدت كل يوم, الكره, والحقد, والضغينة, والقهر, والذل, والاستغلال, وعبودية الفرد. مي, عملت لهم عرساً من زغاريد ومحبة وفرحا ووطنية حقة, كلما صرخت متفجراتهم, أن أعدوا العدة للنعوش السوداء.
مي, يا خالتي المذبوحة, أرسلت يدها وساقها في النعش, وعاشت بإذن الله ...بابتسامة, ونهار آتٍ سعيد.