لم تعرف شرطة صدام حسين يوما باحترامها للقانون أو التمسك بالمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان· فقد كانت ممارسة التعذيب بالنسبة لها عملا يوميا روتينيا، أما القتل تحت الحبس والاعتقال فهو جزء من صميم عملها ومهامها المألوفة· غير أن هذه الصورة يفترض أن تتغير الآن في ظل العراق الجديد· فهاهم عشرات الضباط الأميركيون يتولون مهمة تدريب أفراد الشرطة العراقيين في أكاديمية الشرطة الوطنية، على مبادئ وأصول مفهوم العمل الشرطي الديمقراطي· وقد أتيحت لي فرصة مشاهدة عدد من ضباط الشرطة العسكرية الأميركيين هناك، وهم يدرسون المبادئ الأساسية مثل تقييد يد المتهم، وطرق التفتيش وتقنيات استخدام الأسلحة، إلى جانب تدريس المواد النظرية المتعلقة بحقوق الإنسان·
وعلى أية حال فإن إنشاء شرطة عراقية متمرسة ومحترفة، هو جزء لا يتجزأ من الخطة الأميركية المتفائلة والساعية لبناء عراق أفضل وجديد· المقصود هنا بناء دولة يتولى فيها العراقيون آجلا زمام أمر بلادهم، وفقا لمبادئ وقيم العدالة والحرية والديمقراطية· وكجزء من عملية العرقنة هذه، أعلن الحاكم المدني الحالي بول بريمر أنه سيتم تدريب حوالى 25000 ضابط شرطة عراقي بحلول نهاية العام الجاري ·2003 ومن المتوقع ألا يكون هؤلاء مثل ضباط صدام حسين السابقين الذين اعتادوا ضرب وتعذيب وقتل متهميهم، بل يتوقع منهم أن يقفوا دفاعا عن العدالة وسيادة حكم القانون· واختتم بريمر تصريحه المقتضب بالقول إن مصير العراق، شأنه في ذلك شأن أي بلد آخر، يعتمد في النهاية على وجود قوة شرطة محترفة وذات كفاءة مهنية تمكنها من حفظ الأمن والنظام·
غير أن احتلال بلد ما، هو أمر في غاية التعقيد والصعوبة· أما بناء نظام حكم مدني ديمقراطي في بلد يعاني من كل هذه التمزقات والخلافات العميقة، ويفتقر للاستقرار، علاوة على كونه بلدا لا ديمقراطيا عبر تاريخه الطويل، فهو أمر صعب ومعقد بدرجة مضاعفة· ومما لا شك فيه أن بناء شرطة عراقية وفق خطة غير متماسكة وواضحة المعالم، سوف يثير عددا من الأسئلة والمشكلات نناقش فيما يلي أهمها·
صحيح أننا ندرس العراقيين المبادئ الأساسية لبناء الشرطة الصديقة للمواطنين، إلا أننا في الوقت ذاته نخطط لتدريبهم على فنون القتال التي تمكنهم من كسب المنازلة والعراك مع أنصار ومؤيدي صدام حسين ومجاهديه الذين يمثلون تهديدا حقيقيا لأمن البلاد ومستقبلها· وعلى حد تصريح العميد أحمد خادم ابراهيم رئيس الشرطة الوطنية العراقية، فمن المؤكد أنه سوف يتم إنشاء وحدة خاصة لمكافحة التمرد والعصيان، تسهم في تدريبها وتأهيلها كل من الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا·
في وجه من الوجوه كما يبدو في السطح، فإن تدريب العراقيين أنفسهم على التصدي للتمرد الداخلي في بلادهم يبدو أمرا جيدا وإيجابيا· غير أن دروس وعبر التاريخ، تعلمنا أن نتوخى الحذر في اتخاذ منحى كهذا· وقد سبق لنا أن خضنا تجربة شبيهة، خرجنا منها بنتائج شتى ومتباينة· فخلال الأعوام 1962-،1974 تولت شرطة السلامة العامة الأميركية مهمة تدريب مليون شرطي من خمسين دولة من دول العالم· وقتها -كما هو حادث الآن- كانت الولايات المتحدة قد أصرت على أن يكون هدفها هو الممارسات الشرطية الإنسانية·
ومثلما يحدث اليوم فقد كانت للوكالة نفسها أهداف عليا وأهم، تتمثل في المسؤولية التي أوكلها لها الرئيس جون كنيدي، الخاصة بتدريب قوات الشرطة في البلدان النامية على رد ضربات المتمردين اليساريين والسيطرة على المهددات الأمنية التي تمثلها حروب العصابات هناك· وعلى رغم أن أملنا كان أن يتم إنجاز هذه المهمة الأخيرة على نحو إنساني وديمقراطي متحضر، إلا أن الهدف النهائي كان بكل تأكيد يتمحور حول الحفاظ على علاقات ودية مع الأنظمة غير الشيوعية الحاكمة في تلك البلدان· تحقيقا لهذا الهدف، فقد تولت الولايات المتحدة الأميركية تدريب مئات الآلاف من رجال القوة البوليسية القمعية لشاه إيران المعروفة باسم قوات السافاك· أما في فيتنام فقد تولت قواتنا ومستشارونا تدريب قوات الجزء الجنوبي من فيتنام، على رغم تصعيدنا للحرب ضد الشمال· وفي نيكاراجوا فقد تولت قواتنا تدريب عناصر الحرس الجمهوري الوحشي التابعة للجنرال سوموزا بهدف تمكينهم من محاربة المتمردين· وقتها كان قد تم ابتعاث كبار ضباط الشرطة في ذلك البلد إلى أكاديمية الشرطة الدولية في العاصمة الأميركية واشنطن، حيث قدمت لهم كورسات تدريبية عن إدارة المرور وأخذ البصمات وغيرها من تدريبات شرطية عادية· إلا أن المبتعثين تلقوا كورسات أخرى تتعلق بعقيدة وتكتيكات مكافحة المتمردين· وكانت تلك العقيدة تتضمن فيما تضمنت موضوعات مثل التهديدات الأمنية التي تواجهها أميركا اللاتينية، الذخائر الكيماوية، طبيعة التمرد· والتخطيط للسيطرة على أعمال الشغب وغيرها من موضوعات·
ومع مضي الوقت تحولت الأولوية من بناء شرطة إنسانية محترفة في شتى أنحاء العالم، للأولويات التي فرضتها تمردات الحرب الباردة· وسرعان ما انشغل المستشارون الأميركيون ومكتب السلامة العامة بتسلي