جمعني والعائلة عشاءٌ سريع في أحد المطاعم التركية بالقرية العالمية التي تستحق جائزة خاصة لأنها تجمع الملايين تحت سقفها القشيب. بادرَنا النادل: من أين أنتم؟ أمن الإمارات؟ هل يمكنني التحدث إليكم قليلا؟ قلت: طبعاً، وبكل سرور. فسأل: ما رأيكم في «أردوغان»؟
السؤال غريب، لأن المكان لا يحتمل ذلك، فالترفيه هو الغالب في هذه الأجواء الطاردة لمنغصات السياسة، خاصة منها المتعلقة بتركيا التي وصلت خططها إلى ليبيا، بعد غزة وسوريا والعراق والسودان وماليزيا وباكستان وتونس. لقد انقلب العشاء إلى مائدة فكرية غير مرغوب فيها، لأننا لم نكن على استعداد نفسي لاستقبال مناكفات السياسة التركية الحالية.
أترك القارئ مع حديث هذا النادل التركي الساخط على سياسات «أردوغان» المحلية؛ بدءاً من معدل الرواتب الذي لا يفي بالاحتياجات الأساسية للفرد في المجتمع التركي، حيث تذهب ثلاثة أرباع الراتب في دفع فواتير الماء والكهرباء والغاز. ويواصل النادل الشاب حديثه قائلا: قبل عشرة أعوام أدليت بصوتي لصالح أردوغان، أما في الانتخابات القادمة فسوف أعطي صوتي لرئيس بلدية إسطنبول، وهو المعارض الذي كسب أصوات الكثيرين من أفراد الشعب التركي، واحتمالية فوزه بالرئاسة في الانتخابات المقبلة عام 2023 احتمالية كبيرة جداً. ويتناول مُحدّثنا المشاريع الأخيرة لأردوغان، وبالأخص المطار الجديد الذي لم يستفد منه إلا الشركات الأجنبية، رغم وجود شركات تركية يمكنها المساهمة في هذا المشروع الضخم، فالأتراك أنفسهم لم يحصدوا إلا النزر اليسير من ورائه. ويواصل حديثه المليء بأشجان الشباب قائلا: وددت أن يعود عهد مصطفى كمال أتاتورك، وإن لم أعاصره، فإن سمعته كانت تملأ الآفاق، لأن الفضل يعود إليه في النقلة النوعية لتركيا، والتي نعيش اليوم على ثمارها.
غريب جداً أن نجد شاباً في مقتبل العمر يساوره الحنين إلى الماضي القريب، للبحث عن مخرج لتحقيق آماله العريضة في مستقبله. أعتقد أنه لو لم يكن الوقت قصيراً بالنسبة له، ولو لم يلحظ أننا على عجلة من أمرنا، لفصّل الحديث حول همومه تفصيلا ولأفاض بما في قلبه أكثر وأشمل.
يبدو أن تركيا الحالية انشغلت بالخارج أكثر من قدرتها وطاقتها على الاستمرار في تحمل تبعات مصارعة الآخرين وتأثير ذلك على أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية.
منذ أن أمسك «أردوغان» بكل صلاحيات الدولة التركية من خلال النظام الرئاسي مطلق الصلاحيات، كان أول من انفض من حوله رفقاء طريقه، وعلى رأسهم «أوغلو» مهندس السياسة الخارجية التركية منذ ترؤس «حزب العدالة والتنمية» للحكومة، والذي لجأ مؤخراً مع قادة آخرين لتأسيس حزب جديد بغية إخراج تركيا من مساراتها الحالية.
النظام الحاكم في تركيا لم يعد يخلع من عقله الباطن عقدة مناكفة العرب منذ الخلافة التي ذابت آثارها لأسباب تاريخية وموضوعية معروفة لدى الجميع. أتمنى أن تبتعد تركيا عن الجدل حول أيهما أولى، العروبة أم الإسلام؟ لقد شاهدت عراكاً ساخناً أثناء دراستي في بريطانيا داخل أحد المساجد عندما ذكر الخطيب بأن صلاح الدين الأيوبي عربي، فهجم الأتراك غضباً ضد الإمام متهمين إياه بالكذب، لأن أصل صلاح الدين كردي! هذه العصبية التركية ضد العروبة هي ما نراه اليوم في ممارسات السياسة الخارجية لتركيا الحالية، وفي علاقاتها ببعض الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية صاحبة الثقل في العالمين العربي والإسلامي. فالصراع القومي أو الفكري أو المذهبي لا ينبغي أن يصبغ السياسات الخارجية للدول؛ إذ إن المصالح البينية هي الحاكمة وهي الفاصلة عند أي خلاف في المواقف والتوجهات. أما لغة الغطرسة والإتكاء على الماضي وأساطير القوة فيه، فكثيراً ما تفضي إلى كثير من الأوهام والطلاسم السياسية والخيالات البعيدة عن الواقع في متغيراته الحقيقية.