لا يمكن الحديث عن الفلسفة في القرن العشرين من دون التطرق لاسم عبدالرحمن بدوي (1917-2002)، فهو مشروعٌ مؤسسة قدمه فرد، شمل التأليف، والشرح، والترجمة، والأعمال الموسوعية، مثل «موسوعة الفلسفة»، و«موسوعة المستشرقين».
مشوارٌ طويل ومحتدم، من شخصيةٍ عُرفت بالجدية والانضباط، مع حدة في الطباع، أفقدته- رغم علو كعبه علمياً- الكثير من الناس، كما يذكر ذلك تلميذه سعيد اللاوندي، الذي ألّف عن مواقفه معه، كتاباً كاملاً بعنوان: «عبدالرحمن بدوي فيلسوف الوجودية الهارب إلى الإسلام».
كان بدوي، رحمه الله، عجيباً في علمه، فمن ذلك إتقانه اللغات، وبينها اليونانية القديمة، وبناء عليها شرح أفكار أرسطو، وترجم له، حتى بات ما قدمه في هذا الباب، من كلاسيكيات تداول هذا الباب، عالمياً.
حمل بدوي، هماً فكرياً منذ منتصف العشرينيات من عمره، وراح يترجم، ويشرح، ويقدم أحدث الأفكار المتداولة عند الغربيين، للقارئ العربي، وكان كتابه عن «نيتشه»، من بواكير أعماله عام 1939، ويروي بدوي، أن الرئيس عبدالناصر قرأه، وأعجب به.
كان فارساً لا يشق له غبارٌ، في الفلسفة، أعجب صغيراً بالفلسفة الوجودية، فشرحها، وترجم رسالة «لوك» الشهيرة في التسامح، وقدم للعرب أفكارَ أشهر فلاسفة الغرب، وترجم لهم. وله أكثر من مائة كتابٍ، يشرح فيها الفلسفة للقارئ العربي، بأسلوبه الذي تميز بالوضوح، والدقة، والجمال.
ومع تركيزه على الفلسفة، إلا أنه اشتغل بالتراث العربي، فكتب «شخصيات قلقة في الإسلام»، و«شطحات الصوفية- أبو يزيد البسطامي»، و«مقالات الإسلاميين»، و«تاريخ التصوف الإسلامي من البداية وحتى نهاية القرن الثاني».
ولم يغب الفن عن اهتماماته وكتاباته، فوضع كتاب: «فلسفة الجمال عند هيغل».
وجمع مراسلاته مع حبيبته في كتاب: «الحور والنور». يقول لها في إحدى الرسائل: «فكرة رودان عن الجمال، هي التي قادتني صباح يومٍ عامر بالضباب إلى حدائق التويلري، ثم إلى متحف اللوفر، حيث ذلك التمثال الخالد (فينوس ميلو)، يحج إليه من أقاصي الدنيا، أولئك الذين ينشدون صور الجمال بالذات، فيأتون هنا يلقون عن قلوبهم أعباء زفرات تنشقّ من أعماق المعنى المغلف بسر الحياة... لقد اكتشف هذه الرائعة الفنية، فلاح يوناني، كان يفلح أرضه في جزيرة ميلو، من جزر يونان، فأدى هذا الجلف الجاهل، خدمةً لم يأتِ بمثلها أولئك السادة الأكاديميون، الذين ملأوا الأضابير رجماً بالظن».
كان بدوي، مرحلة انتقالية، وسطى، في تاريخ الفكر العربي، بين التقليدية التراثية، وبين النزعات الموغلة في الحداثة، المستندة على مفاهيم العلوم الإنسانية التي رفضها بدوي، وهاجم بسببها محمد أركون. حينها ردّ الأخير قائلاً:«استعضت عن شخصية بدوي بكتبه».
وربما كان وقوفه في المنتصف، سببا لاستخدام الفريقين نتاجه الفكري، لتميزه أولاً، ولأنه لم ينحز تماماً لمدرسة التراث بكامله، ولا لمدرسة الحداثة، فبقي اسمه، ومشروعه، وقوله حاضراً في مختلف الإنتاج الفكري، والفلسفي العربي، والعالمي.
كتب مذكراته، «سيرة حياتي» في جزأين، وهي تحتوي معلومات موسوعية، رفدتها ذاكرته الحديدية، رغم نبرته الهجائية لكثيرين، مثل: محمد عبده، والعقاد، وأحمد أمين، لكنه برع في شرح تواريخ الدول التي أقام بها، والظرف التاريخي الذي عاصره، كما في حديثه عن لبنان، وهولندا، وألمانيا، وليبيا، وفرنسا، والسويد، عارضاً شروحاته كلوحات فنية، وتاريخية، وموسيقية، وفلسفية، وعلمية.
عبدالرحمن بدوي سيرةُ إنسانٍ نادر، نذر حياته للعلم والمعرفة، وقدم كنوزاً معرفية وإنسانية للقارئ العربي، كما قدم للقارئ الغربي جواهر الثقافة العربية، كما في ترجماته لابن رشد، والفارابي، والكندي... أما حدته، فلعل أهم أسبابها إحساسه المتعاظم بعدم تقدير نتاجه العلمي الزاخر!