في يوم الجمعة 22 فبراير الماضي توجه المئات من الفلسطينيين يتقدمهم أعضاء مجلس الأوقاف الإسلامية في القدس إلى مصلى «باب الرحمة» وتمكنوا من فتح المصلى وأدوا الصلاة فيه لأول مرة منذ ست عشرة سنة حين قامت السلطات الإسرائيلية بإغلاقه بعد حظر جمعية «لجنة التراث الإسلامي» التي كان لها مكتب بالمصلى بحجة أن لها نشاطاً سياسياً. وكان أمر الإغلاق يتجدد سنوياً، لكن دائرة الأوقاف الإسلامية واظبت على استخدامه شهراً كل عام لإجراء الامتحانات لطلبة المدارس الشرعية.
وعلى الرغم من الإغلاق الطويل للمصلى، فقد هب المقدسيون للدفاع عنه وفتحه بعد تعدي الشرطة الإسرائيلية عليه وتركيب السلاسل الحديدية على مدخله، ولأن المسألة بالنسبة لإسرائيل تتصل بصميم ما تريد تأكيده دوماً وهو سيادتها على القدس، فقد سارعت سلطاتها بالتحرك في اتجاهين أولهما محاولة إعادة الإغلاق باستصدار قرار من محكمة إسرائيلية بذلك وتأكيد نتنياهو على ضرورة تنفيذ قرار المحكمة، وإصدار وزير الأمن الداخلي أوامره بإخلاء المصلى، إلا أن هذا لم يحدث حتى كتابة هذه السطور، وقدرت قناة «كان» العبرية أن قوات الاحتلال ستجد صعوبة في إخلاء المكان بالقوة بعد فرض الفلسطينيين سيطرتهم عليه.
وفي4 مارس الجاري أمهلت محكمة الصلح الإسرائيلية مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية أسبوعاً للرد على طلب السلطات الأمنية الإسرائيلية بإعادة إغلاق المصلى، وهددت بإصدار أمر بإعادة الإغلاق إذا لم يستجب المجلس في خلال هذا الأسبوع. وقد أصدرت المحكمة قرارها بعد طلب النيابة العامة الإسرائيلية منها إصدار أمر قضائي بالإغلاق عقب اتضاح أن آخر أمر قضائي بتجديد الإغلاق انتهى في أغسطس الماضي، وقد رد الفلسطينيون بصلاة حاشدة في المسجد الأقصى بما فيه مصلى «باب الرحمة» يوم الجمعة الماضية حضرها عشرات الألوف من فلسطينيي القدس وأراضى 1948 كما أعلن مجلس الأوقاف الإسلامية المسؤول عن إدارة المسجد عدم امتثاله لأمر المحكمة، وقال رئيسه، إن المجلس لا يعترف بالمحاكم الإسرائيلية وقراراتها، وأن المسجد لا تجرى عليه قوانين وضعية.
أما الاتجاه الثاني الذي تحركت فيه السلطات الإسرائيلية فهو محاولة التوصل إلى اتفاق مع السلطات الأردنية باعتبار مسؤوليتها الخاصة عن الأماكن المقدسة في القدس، وكان واضحاً أنها تريد أولاً إعادة الإغلاق لإثبات السيادة ثم لا بأس بعد ذلك أن تسمح بالبدء في ترميم المصلى الذي سوف يستغرق وقتاً طويلاً يمنحها الفرصة لترتيب أوضاعها كي تضمن استمرار سيادتها، غير أن هذه المفاوضات لم تصل لشيء حتى كتابة هذه السطور، وعندما تُنشر هذه المقالة تكون المهلة التي أعطتها محكمة الصلح الإسرائيلية لمجلس الأوقاف الفلسطينية قد انتهت، وربما تحاول السلطات الإسرائيلية إعادة إغلاق المصلى بالقوة غير أنها سوف تخسر من هذه المحاولة سواء نجحت في إعادة الإغلاق أو لم تنجح، لأن النجاح- إنْ حدث لا قدر الله- سوف يأتي بعد مواجهات ضارية مع الفلسطينيين ينكشف فيها المزيد من ممارسات القمع الإسرائيلية تجاههم خاصة في واحد من أبسط حقوقهم الدينية، أما إذا فشلت فسوف يكون هذا الفشل إضافة إلى انتصارات فلسطينية سابقة تحققت في ثلاث مواجهات مشابهة أخرى.
انتصارات ظهرت في يوليو 2017 حيث ربح الفلسطينيون في معركة إزالة بوابات التفتيش الإلكترونية من مداخل المسجد الأقصى، وفي فبراير ومارس 2018 انتصروا في معركة رفض فرض الضرائب على كنيسة القيامة، وفي أكتوبر 2018 انتصروا في معركة وقف هدم قرية «الخان الأحمر» في قضاء القدس عندما أصدر نتنياهو قراراً بذلك لحين إشعار آخر. وتشير هذه المعارك الأربع إلى بدايات تبلور نموذج فاعل للنضال المدني الفلسطيني، وهو نضال يمكن أن يلعب دوراً مهماً في المعركة من أجل استرداد الحقوق الفلسطينية وحمايتها من التغول الإسرائيلي، خاصة في وقت تبدى فيه النخبة السياسية الفلسطينية عجزاً مؤسفاً عن إدراك مدى خطورة المرحلة الراهنة من مراحل تطور القضية الفلسطينية التي تشهد محاولات واضحة لتصفيتها من عدة اتجاهات. ولا شك أن المعركة الرابعة أي معركة «باب الرحمة» سوف تكون أشد صعوبة من سابقاتها، لأنها تجرى قبيل الانتخابات الإسرائيلية التي يواجه فيها نتنياهو تحدياً حقيقياً، ومن ثم فليس من السهل عليه بحال أن يُقدِم على أي تنازل للفلسطينيين لكن إرادتهم أثبتت صلابة فائقة في المعارك السابقة.

*أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة