في 15 فبراير 1989، عبر رتل من المدرعات السوفييتية «جسر الصداقة» من أفغانستان إلى جمهورية أوزبكستان الاشتراكية السوفيتية، معلناً انتهاء الوجود العسكري في أفغانستان. ومنذ عبور الجنود الأوائل إلى أفغانستان في ديسمبر 1979، كان الاتحاد السوفييتي قد حاول مساعدة الحكومة الاشتراكية في كابول على التصدي لمجموعة من الفصائل المتمردة، كان أقواها يتلقى المساعدة من الولايات المتحدة والسعودية، بتنسيق مع جهاز الاستخبارات الباكستاني «آي إس آي». بل إن حتى الصين كانت توفر المساعدة. وبحلول 1989، كان الاتحاد السوفييتي قد انتهى من القتال في أفغانستان. اليوم، وبعد ثلاثين عاماً على ذلك، الولايات المتحدة هي التي تبدو تواقة للانسحاب من البلد بعد حرب دموية طويلة. ومرة أخرى، تتدخل موسكو في أفغانستان، وإنْ كان هدفها هذه المرة لعب دور صانع السلام: ففي نوفمبر الماضي، نظمت روسيا محادثات بين طالبان و«المجلس الأعلى للسلام» وممثلي القوى الإقليمية. وفي 4 فبراير الماضي، استضافت ممثلي «طالبان» ومجموعات أخرى معارضة لحكومة الرئيس أشرف غاني من أجل المزيد من المحادثات.
ميخائيل جورباتشيف، الذي وصل إلى السلطة في 1985، كان يأمل في إنهاء الحرب عبر جعل الولايات المتحدة وحلفاءها يوقفون دعم المقاومة (أو «المجاهدين»، كما كانوا يعرفون) مقابل انسحاب القوات السوفييتية. ولكن إدارة ريجان لم تكن مستعدة لتوافق على إنهاء الدعم إلا إذا أوقف السوفييت كل المساعدات العسكرية لكابول. كما كانت واشنطن تنظر إلى استقالة الحكومة الاشتراكية كشرط مسبق لأي تسوية. جورباتشيف أدرك أن الحزب الديمقراطي الشعبي الأفغاني غير قادر على البقاء في السلطة بمفرده، ولكنه كان يأمل أن يستطيع الاشتراكيون تشكيل جوهر حكومة ائتلافية جديدة. وفي النهاية، أعلن الانسحاب من دون انتظار اتفاق، على أمل أن تلمس واشنطن وإسلام آباد و«المجاهدون» جدية النوايا السوفييتية ويفعلوا ما فيه مصلحة أفغانستان.
غير أن الأمور لم تمضِ على ذاك النحو. فبحلول الوقت الذي لم يعد ثمة اتحاد سوفييتي نهاية 1991، كانت الحرب الداخلية في أفغانستان أبعد عن الحل مما كانت عليه في 1989. كما أن سقوط كابول تحت سيطرة قوى المعارضة في أبريل 1992 لم يفضِ إلى السلام. وبدلاً من ذلك، انقلبت قوى المعارضة على بعضها بعضاً، إيذاناً بمرحلة جديدة مما أصبح 40 سنة من الحرب الأهلية المتواصلة تقريباً.
استراتيجية جورباتشيف قد تبدو لنا الآن ساذجة: فهل كان الأميركيون سيسمحون حقاً ببقاء اشتراكي في السلطة؟ وهل كان من الممكن حقاً إقناع شخصيات المعارضة الرئيسية بالانضمام لحكومة لا تزال يقودها عدوهم اللدود؟ غير أنه بالنظر إلى ما أعقب الانسحاب السوفييتي – صعود طالبان، دور أسامة بن لادن، الجولة الجديدة من الحرب الأهلية بعد التدخل بقيادة الولايات المتحدة في 2001 – من الصعب ألا ننظر إلى 1989 باعتبارها فرصة ضائعة. والواقع أن جورباتشيف لم يكن يتوقع معجزات، ولكن فقط أن تمارس الولايات المتحدة ضغطاً كافياً على حلفائها لدفعهم إلى طاولة المفاوضات، ما كان سيسهّل عليه، بدوره، الضغط على حلفائه في كابول من أجل تقديم تنازلات.
تلك التجربة جديرة بالتأمل في وقت تخطط فيه الولايات المتحدة للانسحاب من أفغانستان. وإذا كان الحديث عن تحويل أفغانستان إلى ديمقراطية ليبرالية قد تلاشى واختفى منذ وقت طويل تماماً مثلما اختفى أي سعي جدي لبناء اشتراكية بالنسبة للسوفييت بحلول 1989، فإنه ما زال هناك بعض الأمل في إنهاء دوامة العنف.
موسكو ربما لا تحب «طالبان»، ولكن المسؤولين الروس ينظرون إلى مشاركة الحركة في حكومة مقبلة على أنه الإمكانية الواقعية الوحيدة لسلام دائم. ولما كان من غير المحتمل أن ترحل «طالبان» وتختفي، فإنه من المنطقي أن تسعى روسيا لتأمين بعض النوايا الحسنة مع الحركة. غير أن ما تفترضه استراتيجية موسكو هو أنه يمكن إقناع «طالبان» بأن تصبح أحد أطراف التسوية، بدلاً من القوة المهيمنة على البلاد. ومثلما أظهرت المفاوضات الأخيرة في الدوحة، قطر، فإن واشنطن لا تعارض مثل هذه النتيجة. منتقدو كل من الحرب التي قادها السوفييت والحرب التي تقودها أميركا كثيراً ما يقولون إن الشعب الأفغاني هو الذي ينبغي أن يقرر مصيره دون تدخل خارجي. وهذا سيكون من العدل والإنصاف، ولكنه مستبعد: ذلك أن القوى الإقليمية والعالمية التي تتدخل في حروب أفغانستان الأهلية منذ أواخر السبعينيات لن تسمح بحدوث ذلك، لأسباب من بينها خوفها من أن خسارتها ستكون مكسباً لطرف آخر.
ولكن الحقيقة هي أن الخسائر التي تكبدها السوفييت في الثمانينيات والولايات المتحدة وحلفاؤها منذ 2001 ليست سوى جزء بسيط جداً مما تكبده الشعب الأفغاني خلال الأربعين عاماً الماضية. فروسيا والولايات المتحدة – والصين وإيران وباكستان والهند – جميعها تأمل في تشكيل ملامح مستقبل أفغانستان. وفي 1989، كان إقناع الأطراف المتناحرة في أفغانستان بالموافقة على اتفاق سلام صعباً بما يكفي. ولكن المنافسة والطموحات ومشاعر الارتياب المتبقية بين القوى الخارجية وقتئذ قضت على أي احتمالات للسلام خلقها الانسحاب السوفييتي. ولهذا، ينبغي على البلدان الأخرى، هذه المرة، اغتنام كل الفرص لتأمين سلام لأفغانستان.
أرتيمي كالينوفسكي: محاضر في الدراسات الأوروبية الشرقية بجامعة أمستردام
* ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
Canonical URL: https://www.nytimes.com/2019/02/14/opinion/afghanistan-moscow-peace-talks.html