النقاش العام حول الموسيقى الشعبية يمكن أن يكشف الكثير بشأن كيفية تغير المجتمعات. ولعل الجدل الأخير في الولايات المتحدة حول بث محطات إذاعية لأغنية «بيبي إتس كولد آوتسايد» الكلاسيكية التي أُنتجت في الأربعينيات مثالٌ جيد في هذا الصدد. الموضوع الذي يثير ضجة في روسيا حالياً هو مكانة موسيقى الراب والهيب هوب المتمردة التي كثيراً ما تتضمن كلمات فاحشة وبذيئة، كما يؤديها جيل جديد من الفنانين الشباب الذي يتكلمون بصراحة. وهو يشير إلى أنه لئن كانت بعض الأشياء ما زالت على حالها في روسيا اليوم، فإن أشياء أخرى تغيرت بشكل جذري.
فمنذ أكتوبر الماضي، أُلغيت حفلات سبعة موسيقيي راب مشهورين على الأقل على نحو غامض. ففي أواخر نوفمبر الماضي، أُوقف أحد أكثر نجوم الراب شعبية، «دميتري كوزنيتسوف»، واسمه الفني «هاسكي»، وحُكم عليه بالسجن 12 يوماً بعد أن احتج على إلغاء حفله في مدينة كراسنودار الجنوبية عبر تقديمه عرضاً مرتجلاً في الشارع فوق سيارة.
وروسيا مكان كان الحزب الشيوعي فيه يحاول، قبل نحو جيل من اليوم، تحديد كل ما يستطيع الناس رؤيته وسماعه، وكان مستعداً لاستخدام أدوات الدولة، بما في ذلك جهاز الاستخبارات الـ«كي جي بي»، لضمان الامتثال لقراراته. واليوم، ما زالت الثورات الثقافية تؤخذ على محمل الجد، إذ يمكن للشرطة أن تتدخل، بل إن حتى الرئيس نفسه يمكن أن يتدخل أحياناً.
وبالنظر إلى سجل العهد السوفييتي، عندما كانت الدولة تحاول قمع ما كانت تنظر إليه على أنه أنواع موسيقية منحلة مثل الجاز والروك، لم يكن من الصعب على البعض رؤية التاريخ يعيد نفسه. فعلى غرار الزعماء السوفييت، وجد فلاديمير بوتين أن من الضروري تحديد موقف رسمي. ولئن عارض حظراً صريحاً لموسيقى الراب، فإنه بدا مثل زعيم شيوعي عندما قال إن على الدولة أن «توجّه» الموسيقيين بعيداً عن الخطاب الفني المدمر الذي كانوا يسيرون فيه.
النزعة السوفييتية إلى السيطرة على التعبيرات الفنية والتأثير فيها وتوجيهها تبدو حاضرة بوضوح، برغم الغموض في تصريحات بوتين، كما يقول آرتر غاسباريان، الناقد الموسيقي في صحيفة «موسكوفسكي كومسوموليتس» الصادرة من موسكو. ويقول غاسباريان: «إن الراب هو الاتجاه القوي الوحيد الذي لم يخضع بعد للرقابة أو سيطرة السلطات»، مضيفاً «منذ عقدين تقريباً هناك عملية انتزاع قطع من كعكة الحرية. في البداية كانت وسائل الإعلام الجماهيرية، ثم المجال السياسي، واليوم هم يلاحقون الأجناس الموسيقية الشعبية. السلطات لم تكن تولي الراب أي انتباه لبعض الوقت، ولكن في بلد سلطوي لا يمكن السماح لقطاع حرية مستقل بالوجود».
فنانو الراب الروس الشباب، الذين يتحدثون باسم الجيل الأول، وليست لهم أي ذكريات من العهد السوفييتي، يبدو أنهم يربكون توقعات كل من السلطات والمعارضة الليبرالية ذات الخط القديم عبر التحدث من دون خوف عما يجول في خواطرهم بخصوص ما يرونه حولهم، بينما لا يبدون أي اهتمام بالتنظيم السياسي.
وخلافاً للعهد السوفييتي، عندما كان موسيقيو الروك يضطرون لمراوغة الشرطة وتنظيم حفلاتهم في أماكن غير قانونية، فإن الراب أضحى اليوم يمثّل صناعة كبيرة ومربحة في روسيا. ففنانونه كثيراً ما يقدمون حفلات في ملاعب مملوءة عن آخرها. كما أن مغني الراب الناجحين يتحولون لنجوم إعلامية كبيرة، وكثيراً ما يصبحون أغنياء على غرار نظرائهم الغربيين. وبعضهم يتمتع بمتابعة جماهيرية كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وأحد الأمثلة هو خامس أشهر فنان راب في روسيا، رومان شوماكوف، واسمه الفني زيغان. هذا الأخير ندد بتوقيف هاسكي ورفض الانتقادات التي وجهها بوتين وكثير من الشخصيات البارزة من الروس المحافظين اجتماعياً.
أحد الدروس المهمة المستخلصة من هذا الجدل هو أن «جيل بوتين» – الشباب الذين كبروا خلال العشرين عاماً من حكم بوتين – يظل لغزاً إلى حد كبير، ولاسيما بالنسبة لمن هم أكبر منهم سناً الذين نشأوا وترعرعوا في العهد السوفييتي. ولئن كان بعضهم قد أبدى نشاطاً سياسياً عبر الخروج إلى الشوارع لمناصرة زعيم المعارضة «أليكسي نافالني»، فإن معظمهم يُظهر محافظة ظاهرية. ولكن بعض الخبراء يقولون إن السلطات سرعان ما تراجعت عن الحملة المناوئة للراب خشية إيقاظهم.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»