عاودتني هذا الأسبوع ذكرى المؤتمر الأول لتضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية بالقاهرة أول يناير 1958، تحت رعاية الرئيس عبد الناصر، كما جاء الاحتفال الكبير بذكرى مرور ستين عاماً على مؤتمر جميع الشعوب الأفريقية في غانا برعاية «نكروما» في ديسمبر 1958 أيضاً. ويذكِّر المؤتمران بهذا النبض العالي الذي كان تحرك في عروق شعوب آسيا وأفريقيا، مع موجة الشعور بالأمل في تحقيق الاستقلال بعد أعوام قليلة من معايشة الشعوب له في مصر والهند والصين وغانا على وجه الخصوص، فيما أسماه سمير أمين بروح «باندونج» (1955).
ولا بد أن يتذكر الشباب العربي والأفريقي دائماً هذه الروح الوثابة التي حركت حكومات وطنية، لتدعو إلى مؤتمرات شعبية على مستوى القارة بهذا الحجم، مقابل ما نراه الآن من مأزق الشباب وشعوبهم مع حكومات لا تستطيع أن تعبئ ولو داخلياً للوحدة الوطنية، وحماية نفسها من التشتت والتقسيم الذي فرضه الاستعمار. ربما ما أكد أحزاني اليوم هو بعض دراسات مهمة، أحيل إلى اثنتين منها كتبها المفكر التنزاني «عيسى شيفجي» ‏ بعنوانين هما: The Struggle For Democracy (2003) Silence In NGO، Discourse (2006)
وذلك بعد أن كتب عن الصراع الطبقي الصامت في تنزانيا إزاء الاكتفاء بمطلب الاستقلال. هو الأستاذ الحريص على دور المجتمع المدني ومنظماته الأهلية، أو الحكومية وفي مواجهة سياسات التفتيت، وعزل التحرك نحو الوحدة الإفريقية من واقع تاريخ سياسي أفريقي وعربي يقول بأن جمعيات العمل الأهلي الوطني والقومي سبقت العمل في إطار حركة الوحدة الأفريقية والجامعة العربية قبل أن تدمجها الدول الوطنية في إطارها، أو قبل أن تشاركها الدول الوطنية مهمتها نتيجة بروز دور زعامات كاريزمية وطنية، ثم وحدوية.
    هكذا كان واقع انعقاد مؤتمرات الشعوب الأفريقية في «أكرا»، أو الأفريقية الآسيوية في القاهرة. أذكر أني حضرت انعقاد مؤتمر الشعوب الأفريقية الآسيوية في مهرجان كبير عقد بجامعة القاهرة 1958، عبّأت له آنذاك حكومة جمال عبد الناصر، كافة القوى العمالية والمثقفة، وشباب الجامعة وخارجها لتعبر عن انشغال الدولة والشعب في ذلك الوقت بالعملية التضامنية والتعبوية بين الشعوب، بل والدفع بزخم حركات التحرير في القارتين وذلك قبل أن تقوم الحكومات بحجب هذا الدور لتنفرد بالعمل الوطني رغم تأسيس هذه الحركة في مقر سكرتارية التضامن الأفريقي الآسيوي بالقاهرة حتى الآن وإن بظلال متواضعة.
    أما في «أكرا» حيث الحماس العالي للوحدة الأفريقية إلى حد طرح مشروع «الدول الأفريقية المتحدة» شعاراً، والإعلان عن دعم الكفاح المسلح الذي دفع بأفكاره «فرانز فانون»، وزخم الثورة الجزائرية، بل وزعامات حركة «ماو ماو» في كينيا، ورمزية المطالبة بإطلاق سراح «جومو كينياتا»، مما جعل مؤتمر «أكرا» فعالاً بدوره، رغم محاولة منافسة مؤتمر القاهرة، لكن تحرك قيادة التحرر الوطني بقيادات كاريزمية بين العاصمتين جعلا قوة البلدين قوة حقيقية للتحرر حتى قامت كتلة الدار البيضاء، ومنها إلى منظمة الوحدة الأفريقية في أديس أبابا 1963.
أشارك «عيسى شيفجي» الرأي أننا قد لا نكون شعرنا بتأثير حركة الوحدة الأفريقية على سيولة الحركات الشعبية، ممثلة في منظمات ما سمي بالمجتمع المدني أو الجمعيات الأهلية، ولا باعتبار ذلك مساوقاً للانتقال من حركات التحرير في عهد الاستعمار وبعده إلى الاشتباك مع المرحلة التنموية للمجتمعات ومتطلباتها الديمقراطية بزخم المنظمات الشعبية، ربما كان ذلك بسبب ما أشيع عن صلة حركات المنظمات الأهلية بالعالم الخارجي وتمويلاته، في ظل سياسة صندوق النقد الدولي وبنكه، وانتشار قيم السوق الحرة مرتبطة بقيم الليبرالية الجديدة، أدى ذلك بالضرورة إلى ترسيخ الطائفية والعرقية، وتقوم هذه الجمعيات بزعم مساعدة نتائجها في المجتمع، نتيجة الإفقار والتصارع. من هنا نشعر أنه لابد من نهج تفاوضي اجتماعي سليم، تقوم فيه القوى الديمقراطية، والمنظمات الشعبية، بدفع دور الدولة لحماية المصالح الكبرى للشعوب، ولتبقى أدوار العمل الأهلي لحماية ديمقراطية المجتمع إلى جانب ما تقول به دعايتها المفرطة عن رعاية العجزة والفقراء.
وليصبح العمل الأهلي إذن جزءاً من عملية مقرطة المجتمع لا تقسيمه إلى قطاعات نوعية من الطوائف ولا إلى الجمعيات النوعية التي تستبعد العمل الوطني الشامل بحجة الابتعاد عن التسييس أو الانحياز، وهذا غير صحيح.