منذ الهجوم الإرهابي الذي شنّته «حماس» على الإسرائيليين في 7 أكتوبر، متبوعاً بالحملة العسكرية الإسرائيلية الانتقامية في غزة، قالت إدارة بايدن إن المساعدات الإنسانية في غزة تمثّل ركيزة أساسية في مقاربتها تجاه الأزمة. ولكن يبدو أن هذا الجزء من الاستراتيجية الأميركية أخذ يفشل الآن في وقت تضع فيه الهجمات الإسرائيلية العشوائية والقيود التي تفرضها إسرائيل على إيصال المساعدات للفلسطينيين الناجين في مواجهة مجاعة من صنع الإنسان. والحال أنه بوسع الولايات المتحدة أن تفعل المزيد لضمان عدم تجويع سكان غزة، وينبغي لها أن تفعل ذلك.
يوم الجمعة الماضي، قال مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية لوكالة «رويترز»: إن معظم جنوب ووسط قطاع غزة معرّض «لخطر المجاعة بشكل كبير»، وإن المجاعة في شمال غزة «من المحتمل جداً أن تكون موجودة». وذهب تقرير صدر في 18 مارس عن «التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي»، وهو مبادرة متعددة الأطراف لتقييم حدة الأزمات الغذائية، إلى أبعد من ذلك إذ أشار إلى أن نحو 1.1 مليون غزي يعانون حالياً من «انعدام أمن غذائي كارثي» وأن «المجاعة وشيكة» في المناطق الشمالية.
وفي ردها على ذلك، انتقدت الحكومة الإسرائيلية بيانات «التصنيف» ومنهجيته ونفت أن تكون إسرائيل «تتعمد تجويع السكان المدنيين في غزة». وفي الوقت نفسه، حمّلت«حماسَ» ومنظمات الإغاثة مسؤولية إساءة استخدام المساعدات وسوء إدارتها. وتؤكد إسرائيل أنها لا تضع أي قيود على كمية المساعدات التي يمكن أن تدخل غزة.
غير أنه من الواضح أن معاناة الغزيين تتزايد بشكل كبير. فقد ظهرت تقارير حول تدافع وتهافت حشود كبيرة من الأشخاص اليائسين على قوافل المساعدات وحول موت أطفال جوعاً في المستشفيات، كل ذلك في وقت تقف فيه آلاف شاحنات المساعدات في انتظار التصاريح الإسرائيلية لدخول غزة. ثم إن عمال الإغاثة الذين يتمكنون من الدخول إلى غزة يواجهون ظروفاً مرعبة، فقبل أكثر من أسبوعين، ضربت إسرائيل قافلة منظمة «وورلد سنترال كيتشن» في ما زعمت أنه «خطأ فادح»، ما أسفر عن مقتل 6 من عمال الإغاثة الأجانب وفلسطيني.
منظمات الإغاثة تتهم عملية التفتيش المرهقة والتعسفية التي تقوم بها إسرائيل لشاحنات المساعدات بأنها تفاقم بؤس سكان غزة. ووفقاً لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، التي تُعد أكبر منظمة إغاثة في الميدان، فإن القيود الإسرائيلية على دخول المساعدات إلى غزة آخذة في الازدياد. وتتمثّل إحدى المشاكل في حظر المواد «ذات الاستخدام المزدوج» والتي ترى إسرائيل أنه يمكن استخدامها استخداماً عسكرياً، مثل عبوات الأكسجين، والمولّدات الكهربائية، وأجهزة التنفس الصناعي، بل وحتى المقصات من مجموعة الأدوات الطبية الخاصة بالأطفال.
وعلاوة على ذلك، يرفض المفتشون الإسرائيليون بشكل غير متوقع دخول مواد لا توجد ضمن قائمة «الاستخدام المزدوج»، وفقاً لمعلومات قدّمها لي مسؤولون في «الأونروا». وعلى سبيل المثال، فإنه يُرفض دخول شاحنات تحمل «مستلزمات الكرامة» الخاصة بنظافة النساء والفتيات بسبب وجود مادة الجليسرين في مرطّب اليدين. وفي حالة أخرى، رفض المفتشون الإسرائيليون دخول شاحنة عدس أحمر بدعوى سوء التغليف.
أطفال غزة الأصغر سناً هم الأكثر تضرراً من هذا الوضع المتدهور. فحسب تقييم أجرته «مجموعة التغذية العالمية» التابعة للأمم المتحدة في مارس الماضي، فإن أكثر من 30 في المئة من الأطفال في شمال غزة ممن تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و23 شهرا باتوا يعانون الآن من سوء التغذية الحاد، أي ضعف المعدل المسجل في يناير. وأكثر من 80 في المئة من الأسر في شمال غزة تتناول وجبة واحدة فقط في اليوم.
الحكومة الأميركية ساهمت بأكثر من 180 مليون دولار أميركي لمنظمات الإغاثة العاملة داخل غزة منذ بداية الأزمة. ويثير كبار المسؤولين في إدارة بايدن موضوع وصول المساعدات الإنسانية مراراً وتكراراً. وحالياً، يقوم الجيش الأميركي بإسقاط حزم المساعدات جواً من الطائرات، ويخطّط لبناء رصيف عائم قبالة ساحل شمال غزة لإيصال المساعدات البحرية إلى القطاع.
ولا شك أن هذه الجهود تستحق الإشادة، ولكنها غير فعالة وغير كافية، فمن دون زيادة جوهرية في تدفق المساعدات، فإن المجاعة ستحلّ قبل أن يصبح الرصيف العائم جاهزاً للتشغيل بوقت طويل. وأفادت تقارير بأن مسؤولين في إدارة بايدن حذّروا المسؤولين الإسرائيليين من أن اجتياحاً برياً لرفح يمكن أن يزيد الوضع الإنساني سوءاً. وقال البيت الأبيض: إن الإسرائيليين وعدوا «بأخذ هذه المخاوف بعين الاعتبار».
غير أنه من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية لا تستجيب لمخاوف فريق بايدن. والأسوأ من ذلك أن وزارة الخارجية الأميركية ما زالت تقول إنها لم تجد ما يدلّ على أن إسرائيل تنتهك القانون الإنساني الدولي، رغم أن تقييماتها متواصلة. استنتاج اعتبره السيناتور كريس فان هولن (الديمقراطي عن ولاية ميريلاند) عن حق «منفصلاً تماماً عن الواقع الميداني».
وخلاصة القول: لقد آن الأوان لكي تستخدم إدارة بايدن ضغطاً حقيقياً، بما في ذلك التهديد بمنع الأسلحة عنها، لإقناع الحكومة الإسرائيلية بالقيام بما أمرت به محكمة العدل الدولية، أي: السماح بـ«توفير» الغذاء والنظافة والمساعدات الطبية «دون عوائق». والحال أن موافقة فريق بايدن الأخيرة على تزويد الجيش الإسرائيلي بآلاف القنابل الإضافية، قبل أن تمتثل إسرائيل لتلك المطالب، يرسل إشارة خاطئة تماماً.
إذا كانت الولايات المتحدة تستطيع أن تتفرج على الأطفال وهم يجوّعون من قبل حليفتها، فعلى ماذا ستستند عندما تنتقد طغاة يستخدمون الغذاء كسلاح حرب؟! الواقع أنه إذا لم تبذل حكومتنا جهوداً أكبر من أجل تخفيف الكارثة الإنسانية في غزة، فإنها ستقوّض الأمل في السلام والاستقرار وستضرّ بمصداقية الولايات المتحدة في المنطقة لعقود قادمة.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»