ليت مَن يحتفون في أوروبا الآن بالمئوية الثالثة لولادة الفيلسوف التنويري الألماني إيمانويل كانط يتذكرون كتابه الصغير في حجمه، الكبير في قيمته «مشروع السلام الدائم»، الصادر في عام 1795. فما أبعدَ العالم اليوم عما تصوره كانط في ذلك الكتاب الذي وضع فيه خلاصة رؤيته لخلاص البشرية، مقرونةً بخطةٍ كانت الأولى من نوعها في التاريخ. فبالرغم من إدراك كانط أن النزوع إلى الصراع والحرب قوي في النفس البشرية، فقد شرح ما ينطوي عليه من شرورٍ وأخطار، وما يؤدي إليه من توحشٍ.. وذلك في إطار توجهه الفلسفي العام الذي يجمعُ بين العقلانية والواقعية والنزعة الأخلاقية. لقد انطلق كانط من أن تحقيق السلام العالمي يتطلب ما هو أكثر من ترتيباتٍ سياسيةٍ وقانونية.. ذلك أن السلام عنده رسالة أخلاقية بمقدار ما هو هدف سياسي عام ومهم للغاية.
لقد رأى كانط أن السلام لا يعني فقط تجنّب نشوب حروب أو إطفاء نيرانها أو منع اندلاعها أصلاً، بل هو كذلك تغيير يشمل الأوضاع التي تجعل الحربَ مُمكنةً، وذلك عن طريق تعزيز علاقات التعاون الدولي ومن خلال الإسراع إلى احتواء أي خلاف في مهده، والعمل على تقوية ثقافة المساومة السياسية والتسويات التاريخية والحلول الوسط لتيسير العمليات التفاوضية وتوفير الفرص لنجاحها بشكل راسخ ودائم.
وربما تساعد نظرات كانط هذه إلى السلام في فهم لماذا لم تُفض جهودٌ كبيرة بُذلت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلا إلى نتائج محدودة للغاية، إذ استمرت الصراعاتُ وتوالدت واندلعت حروب كثيرة. لقد نجحت تلك الجهود حتى الآن في تجنب نشوب حرب عالمية ثالثة، لكن السلام العالمي لم يتحقق، بل بقي بعيد المنال، ويبدو أنه يزدادُ بُعداً في الوقت الحالي مع حلول مئوية كانط الثالثة، ومرور نحو 230 عاماً على نشر مشروعه المُلهم.
وربما تسَبَّبَ غياب رسالة السلام الأخلاقية، التي أكد كانط أهميتها، في تقييد دور هيئة الأمم المتحدة وتضارب تفسيرات مواد ميثاقها وفق المصالح والأهواء، إذ لم تلعب المنظمة الدولية الدور الذي تصوره وبشّر به عندما دعا إلى تنظيم العلاقات بين الدول والشعوب لكي لا يبغي أي منها على الآخر، ووضع حد لما أسماها حريةً خرقاءَ لا ضابط لها على الصعيد الدولي. فالحريةُ في العلاقات الدولية، حسب تصور كانط، يجب أن تكون رشيدةً ومحكومةً بقانونٍ عالمي يتمُ التوافق عليه، ويقومُ على مبادئ أهمها الثلاثة الآتية:
المبدأ الأول هو عدم جواز إخضاع أية دولةٍ، كبيرة كانت أم صغيرة، لسيادة دولة أخرى في مُطلق الأحوال، وعدم التدخل على أي نحو في نظامها أو حكومتها أو دستورها وباقي شؤونها الداخلية. ونجدُ في هذا المبدأ الأساسَ الأول لفكرة عدم التدخل في الشؤون الداخلية التي أُقرت في ميثاق الأمم المتحدة ومعاهداتٍ دولية عدّة، لكنها لم تنل الاحترام المأمول لها بشكلٍ كامل.
والمبدأ الثاني هو عدم أخلاقية إبرام معاهدةٍ للسلام إذا انطوت نيةُ أيٍّ من أطرافها على أمرٍ من شأنه تجديد الصراع وإشعال حرب في المستقبل. أما المبدأ الثالث، الذي يبدو أنه وضعه على سبيل الاحتياط في حالة نشوب حرب، فهو عدم السماح لأيٍ من الدول المتحاربة بارتكاب أفعال قد يكونُ من شأنها إعاقةُ العودة إلى السلام.


*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية