لم تعد الإشكالية الراهنة في مسار العلاقات بين إيران مرتبطة بحدود الرد والردع المتوقع بين الجانبين فقط، وإنما الأمر مرتبط بأدوات ومحددات المواجهة الجديدة التي تتشكل في إطار من الثوابت والحسابات الحقيقية، وتغيير واقع ومستقبل الصراع بين الجانبين، بعد أن انكسر الحاجز النفسي في مسار ما كان يجري بين البلدين منذ سنوات طويلة، ودخول إيران المواجهة بصورة، أو بأخرى بصرف النظر عن تقييم وتشخيص ما جرى توصيفه خاصة، وأن الجانبين يتوجهان إلي جمهور داخلي وإقليمي، وإلى بيئة دولية يمكن أن تتعامل بحسابات مختلفة في ظل واقع سياسي واستراتيجي محدد يتعامل مع أسس العلاقات في مستوياتها المختلفة، انطلاقاً من حقيقة مرتبطة بالنفعية والمصلحية، والواقعية التي تتعامل بها السياسة الإيرانية القائمة على فكرة تحقيق مكاسب من كل ممارسات السياسة إقليمياً، بل ودولياً.
وبالتالي، فإن الإدارة الأميركية الراهنة، والتي بدأت تلملم أوراقها ستتعامل وفق قائمة تحفيزية للتعامل مع إيران خلال ما تبقي لها من وقت في البيت الأبيض، وهو أمر يتماشى مع الطرح الإيراني الراهن، ولا يختلف عليه الداخل الإيراني.
إيران ستصيغ مقاربة جديدة لمسار العلاقات في الإقليم، انطلاقاً مما جرى في إطار التركيز على الأولويات، وإعادة بناء الحسابات،اعتماداً على الوكلاء الإقليميين في المقام الأول، خاصة أن التكلفة العالية التي ستتحرك فيها السياسة الإيرانية، وفقاً للرهانات المطروحة لا تركز فقط على تحقيق أعلى عائد من النفعية السياسية فقط بل، والعمل على أرضية توافقية حقيقية، والانتقال تدريجياً إلى تنفيذ سياسات أكثر فائدة، إضافة للوضع في الاعتبار ثوابت تتعامل معها في ظل ما يجري من متغيرات في الإقليم، واستمرار ارتدادات حرب غزة كما هي، وعدم وجود أفق سياسي لما يمكن أن تؤدي إليه تطورات الأوضاع في ظل تعثر مسار التهدئة، ومسعى حركة «حماس» لإطالة أمد المواجهة برغم التكلفة العالية التي يدفعها الشعب الفلسطيني، وليس حركة «حماس» وحدها، خاصة في ظل صدامات جديدة على هامش ما يجري اذا سعت إيران لتصدير الموقف الراهن على أرضية الربح والخسارة، وهو ما قد تعمل عليه من الآن فصاعداً.
في المقابل ستتحرك إسرائيل في اتجاهات عدة أهمها ليس فقط العمل على سيناريو الربح والخسارة، أو تحقيق معادلة الردع الاستراتيجي، والانتقال إلى استئناف سياسة العمل وفق حرب الظل، الأمر الذي قد يؤدي لمزيد من الخيارات الصعبة، خاصة أن إسرائيل باتت تتعامل ليس كدولة في الإقليم فقط، بل دولة مركزية تحظى بدعم غربي غير مسبوق من الولايات المتحدة والدول الغربية، كما أنها تبنت استراتيجية التفاعل الجماعي، وفق ما جرى مؤخراً حتى قبل المواجهة الشكلية الأخيرة مع إيران، في ظل خيارات متعددة ستتعامل بها السياسة الإسرائيلية، وهو ما برز في المطالبة داخل أجهزة المعلومات، خاصة الاستخبارات العسكرية «أمان» بالعمل وفق استراتيجية متنوعة تجمع كل أدوات التعامل ما بين استمرار استراتيجية الردع الاستباقي إلى تبني استراتيجية دفع إيران لحافة الهاوية بصورة مرحلية وانتقالية.
وهو ما يفسر بالفعل أولوية إسرائيلية متفق عليها داخل إسرائيل على الأقل في المدى القصير، مما يعطي دلالات إلى أن إسرائيل تنتقل تدريجياً من مرحلة المواجهة المباشرة، ومواجهات الظل إلى استراتيجية متعددة وفق حسابات حقيقية تجمع ما بين واقع ما يجري في النطاق الإقليمي، والمتغيرات الدولية التي تفرض نفسها على الإقليم، بما في ذلك استمرار الحرب في غزة، وإعادة هندسة المشهد السياسي والاستراتيجي في المنطقة، انطلاقاً مما سيجري في الإقليم من ترتيبات، وهو أمر قابل للتكرار في مناطق أخرى من الإقليم، وسيرتبط بطبيعة الحال بالقضايا، والملفات العربية الإقليمية المفتوحة، والتي ترى إسرائيل أنها قابلة للتعامل شريطة تدويل المواقف بصورة تسمح لإسرائيل ببناء شراكات جديدة تتجاوز الحالة الراهنة للإقليم بكل تطوراته الحادثة التي يمكن أن تؤثر على مسارات الحركة الإسرائيلية، ولا تتماشى مع توجهات الدولة العبرية بأكملها، وليس حكومة اليمين الراهنة فقط.
ومن ثم، فإن مؤسسات القوة في إسرائيل، خاصة مراكز القوى في المؤسستين العسكرية والدينية تصيغ في الوقت الراهن مقاربات شاملة لما سيجري من تغييرات في الشرق الأوسط الجديد، وفق حسابات إقليمية ودولية جديدة، وفي ظل ما يجري في مناطق الصراع، سواء في جنوب البحر الأحمر، أم على طول مناطق التماس العربية الإقليمية، والتي قد تسمح بمساحات كبيرة للحركة الإسرائيلية في ظل ما يجري في غزة.
مجمل ما سيجري سيكون مرتبطاً بدور آخر تلعبه الفواعل من غير الدول مثل «حزب الله»، وحركتي «حماس» و«الجهاد»، وغيرها من أدوار متعددة، ولكنه سيكون دوراً منضبطاً من قبل إيران تخوفاً من أية تأثيرات مرتدة من الخارج على الداخل الإيراني، وفي ظل محاولات غربية بالتعامل مع النظام الإيراني، وإيصال رسائل متعددة حول آليات التعامل الجديدة بين طهران وتل أبيب، وهو ما قد يحدد بالفعل سيناريوهات المشهد بصورة حقيقية تتجاوز الأطر النظرية التي تطرح في الوقت الراهن.
إسرائيل، وليست إيران هي من ستحدد مسار ما سيجري مدعومة بمواقف أميركية، وغربية لافتة، وترتبط بمصالح حقيقية لهذه الأطراف في الشرق الأوسط، وفي ظل سيناريوهات متعددة تُعلي من شأن المصالح السياسية والاستراتيجية، مع الاستمرار في دعم إسرائيل، وتأمين حضورها الاستراتيجي في الإقليم.
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية