قبل أكثر من 100 عام، تمحورت الهوية السياسية الفكرية العربية حول العديد من الصور والمسارات الفكرية والأيديولوجية، التي مثلت المشهدَ السياسي والفكري في ذلك الوقت. ومع انحسار فرص انفتاح الشعوب العربية على الثقافات والتيارات السياسية والفكرية الأخرى، كانت البيئة المحلية هي العامل الرئيس في تحديد التوجهات السياسية والفكرية للشعوب العربية. وقد أسهم في تعميق ذلك نقصُ التعليم في العديد من الدول العربية، وهو ما أتاح الفرصةَ للقيادات العربية المتعلمة قيادة توجهات الشعوب وتحديد فكرها وحراكها السياسي. ولتحديد طبيعة التنوع الذي شهدته الهوية السياسية الفكرية للشعوب العربية، خلال مئة عام الماضية، من المهم تصنيف العالم العربي إلى قسمين، غربي يمكن وصفه بالتنويري، وشرقي يغلب عليه الطابع الديني، حيث سارت الشعوب في المغرب العربي في تحديد هويتها السياسية الفكرية وفق تيارين متضادين، تمسك أحدهما بهويته العربية، ورفض دعوات التحرر الفكري وتوجهات الحداثة والتغريب.

وفي مقابل ذلك اتجه التيار الآخر إلى استحسان النموذج الغربي، وتسويقه على أنه المسار الذي سيحدد مستقبل الشعوب ويحقق تطلعاتها. وبين الاتجاهين تمحورت الهوية السياسية العربية، بين تيار رافض للاستعمار بكل صوره وأشكاله، وتيار تنويري آمن بالنموذج الغربي، وسعى إلى تقمصه وتغليفه بطابع عروبي يحقق له القبول الشعبي والمجتمعي. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية بنتائجها الثقيلة على العالم العربي، أخذت التيارات السياسية العالمية في التأثير على الشعوب العربية، ورسم هويتها السياسية والفكرية، حيث تأثرت على نحو كبير بالنظرية الماركسية وحركات التحرر الشيوعية. وتنوعت تلك التأثيرات باختلاف وتنوع الفكر السياسي الشيوعي، بين اللينينية والماوية.

ولسنوات طويلة صبغت تلك التوجهاتُ السياسيةُ الفكريةُ الهويةَ العربية، وأثّرت فيها كثيراً، ثم جاءت القومية العربية، وبالأخص الناصريةُ التي طغت بشكل كبير على العالم العربي، ومثلت لسنوات طويلة هويتَه السياسيةَ الفكرية، مما أدى إلى بروز العديد من الصراعات السياسية والفكرية لدى النخب العربية، أسهمت في خلق تيارات وتوجهات سياسية فكرية مثّلت جزءاً من الهوية السياسية للشعوب العربية. كما تأثّرت، وبشكل كبير، الهويةُ السياسية الفكرية للشعوب العربية بالتيارات الدينية، السنية منها والشيعية، والتي طبعت المشهدَ العام منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، وتقاسمت تأثيراتها من حيث درجة التأثير وحدته، بين دول المشرق العربي ومغربه.

واليوم، وبعد مرور مئة عام على مشهد الهوية السياسية والفكرية للشعوب العربية، يمكن ملاحظة انحصار واندثار غالبية تياراتها؛ فالتيارات التحررية التي أسهمت في إنجاح حركات التحرر وتحقيق الاستقلال وإنهاء الاستعمار سقطت، كما سقطت التيارات الشيوعية والاشتراكية بسقوط الاتحاد السوفييتي، وتهاوت فكرة القومية العربية بدايةً من هزيمة 1967 وما تبعها من تأثيرات مدمرة، وسقط «البعث» بسقوط نظام صدّام حسين، كما سقطت السلفية الأصولية واندثرت تياراتها الآسيوية والعربية، في حين مثل «الربيع العربي» السقوط المدوي لجماعة «الإخوان المسلمين» ومشروعها السياسي، وتعيش الآن نظرية ولاية الفقيه آخر فصولها. واليوم تعيش الشعوب العربية واقعاً سياسياً مختلفاً في ظل ضبابية الهويات السياسية للأجيال الشابة التي ستصنع المستقبل السياسي للمنطقة، وهي قضية تستحق البحثَ والدراسة المتعمقين من جانب المراكز البحثية، لبيان انعكاساتها المستقبلية على العالم العربي. والسؤال المهم: كيف ستتمحور الهوية السياسية الفكرية للشعوب العربية في المستقبل؟

*كاتبة إماراتية