هجر الإنسان عبر التاريخ البيئة الزراعية والجبلية والصحراوية والبحرية، ليتجه للبحث عن سبل العيش المتاحة في القرى والمدن وحواضرها بعد أن مرت عليه ثورات مختلفة غيرت أسلوب حياته. واليوم يعيش الإنسان الثورة الصناعية الرابعة، والتي أصبحت الهجرة فيها من المدينة إلى العالم الافتراضي في مجتمع الهاتف الخلوي، وعولمة نموذج حياة واحد في استراتيجية الشك في كل ما هو موجود وتحرير الفكر الإنساني من كل القيود الموروثة من جيل إلى آخر، ومشاريع التطوير الإلكتروني من جانبها قيد التطبيق لتلامس حياتنا اليومية، من دون أن نشعر لتختفي حدود وبدايات ونهايات الصالح العام.
أصبحت الخوارزميات والعلوم المتقدمة أمام البشرية وغضب الطبيعة من خلفها، وتفعيل خطة انفصال البشر عن واقعهم المادي والانتقال إلى عالم البرزخ السيبراني، والإعلان عن نحر الأخلاق على باب معبد البيانات الكبرى والإنسان الرقمي وتحول الديانات لوثائق يسجل فيها ديانة الإنسان، بينما نرى تصرفاته وأسلوب حياته وما يقبل به كمسلمات عبارة عن دين آخر يهيمن على طبيعة الإنسان المعاصر، وإنسان الكهوف الإلكترونية حيث عاد الإنسان إلى ذلك الزمن الغابر بحلة جديدة وتغير مكان الكهف، حيث انتقلت الظلمة من داخله إلى داخل من يسكنونه.
الحرب الباردة الحالية هي حرب بين باردة وساخنة، وكل سكان قارات العالم متورطون فيها، وهم أدوات ومساحة المعركة في هذه الحرب بعد عسكرة المحيطات والبحار وتأميم موارد الطبيعة العابرة للحدود، وتبنّي تطبيقات العلوم فائقة التطور للوصول إلى أعماق وأسرار الكون، بينما الإنسان لم يصل إلى أعماقه بعد وعاجز عن الوصول إلى أعماق وأسرار الأراضي والبحار.
ما يتم تسويقه منذ آخر ربع قرن إلى يومنا هذا أن العقل البشري لم يصل بعد إلى كامل طاقته، ولحدوث ذلك لابد من دمج الإنسان مع الآلة ليصل العقل البشري لكامل طاقته التي ستكون نسبة التحكم بها هي 100%، وموت الضمائر إكلينيكياً ونشر مفاهيم روحية غير مسبوقة تعيد رسم خريطة الطريق للقيم البشرية الحالية، وسيقومون بشن حملات دائمة لتقزيم كل توجه وفكر مخالف وتعويم الأفكار المعارضة وكل دعوة لإستعادة الإنسان غير المؤدلج، وستصبح جملة «حرية الفكر» جملة منبوذة، ولم يعد لها معنى في القارة السيبرانية المختزلة للقارات السبع.
قد يبدو هذا الطرح خيالاً علمياً للغالبية، ولكن في ربع القرن القادم ولفرض نظام عالمي جديد «بيوحيوي» و«بيوتقني» لابد من أن يدخل جسم الإنسان عن طريق الهواء أو الأمطار التي تهطل وتحمل مركبات مجهرية معينة، أو الشرائح والمواد الحيوية التي ستدخل جسم الإنسان بطرق مباشرة وغير مباشرة في الفترة القادمة، وتغيّر في تركيبته الجينية بالقدر الكافي لجعله ضمن حظيرة «الإنسان الهجين» والدخول في حقبة «إنسان ما بعد الحداثة»، والخوض الواسع في إشكالية العدم والفراغ الكوني، وكأن تلك المصطلحات تعني اللاشيء وهي في الحقيقة ناتج عن شيء ولها بداية ونهاية.
الحرب الباردة القائمة هي منعطف طريق لبقاء البشرية أو اندثارها، حيث إن فكرة احتكار تخزين الحبوب الغذائية الرئيسة وإمكانية قطع الوصول إلى الغذاء والسلع الأساسية الأخرى لخدمة الأهداف الإستراتيجية لبلد ما، والتنافس بين القوى العالمية الأكبر والتهديد بانقطاع إمدادات الحبوب سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار ووضع السكان في بلدان عبر أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا في خطر الجوع، بينما تتراوح السيناريوهات المحتملة لولادة الوباء التالي من سيناريوهات «يوم القيامة» التي يرّوج أنه سيتسبب فيها الاحتباس الحراري، وظهور فيروسات غير معروفة سابقاً من الجليد في القطب الشمالي، أو تسريبها من أحد المختبرات في دول العالم المختلفة، وحدوث كوارث طبيعية تنجح في تحقيق ما فشلت فيه الجيوش وهي سيناريوهات قابلة للتحقق خلال السنتين إلى العشرين سنةً القادمة، ويبقى السؤال: هل البشرية جاهزة لجائحة جديدة أكثر فتكاً وشدةً ؟ وهل نتيجة الحرب الباردة الحالية حتمية وستقلص عدد سكان الأرض؟ وهل ستكفي موارد كوكب الأرض لسكان الأرض الحاليين والزيادة المتوقعة في الخمسين سنةً القادمة؟
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الحضارات