في الأسبوع نفسه الذي سقطت فيه عاصمة هايتي، بورت أو برنس، في براثن العصابات المتعطشة للسلطة، احتفلت الكنيسة الأسقفية البروتستانتية بذكرى ميلاد «جيمس هولي»، الذي «ولد في الجزء الغربي من مدينة واشنطن، بالقرب من جورج تاون، في يوم 3 أكتوبر 1829، لأبوين أسوَدين مستعبدين سابقاً، والذي سيصبح أول أسقف في هايتي.
كان هولي شاهد عيان على معاناة ويأس الهايتيين في القرن الـ19 الذين كانوا يحاولون كسب لقمة العيش في بلدهم الكاريبي المستقل. وقد توفي هناك عام 1911 بعد أن كرس حياته لخدمة كنيسته. وتضمن العرض الأخير الذي قدمه هولي لمهمته في عام 1897 بناء منزل كاهن الأبرشية في بورت أو برنس، وافتتاح مدرسة ابتدائية ومستوصف ومستشفى بالعاصمة، ومدرسة لتدريب المرشحين لتنفيذ «الأوامر المقدسة».
لقد عصف الموت بالعديد من الذين وصلوا معه على متن السفينة التي أبحرت من نيو هيفن بولاية كونيتيكت إلى هايتي في الأول من مايو عام 1861، بما في ذلك خمسة من أفراد عائلته ماتوا بسبب «حمى مدمرة» في غضون تسعة أشهر من وصولهم. لكن مفتاح قصة هولي هو أنه وولديه الذين فقدا أمهما واصلوا بناء دولة بعيدة كل البعد عن الديمقراطية التي تفتقر إلى القيادة والتي تجعل هايتي اليوم - مع عدم وجود مجلس تشريعي فعال ولا انتخابات منذ ما يقرب من عقد من الزمان- أفقر دولة في النصف الغربي من الكرة الأرضية.
ولا يوجد بلد يعرف هذا التاريخ أفضل من الولايات المتحدة التي ظلت لفترة طويلة طرفاً حاضراً لمعظم ما يجري في حياة الهايتيين. مَن أرسل قوات مشاة البحرية الأميركية إلى هايتي، لنقل 500 ألف دولار من البنك الوطني في هايتي لحفظها في نيويورك، وبالتالي منح العم سام السيطرةَ على المؤسسة المالية الهايتية؟
وفي عام 1914، وبعد اغتيال الرئيس الهايتي، أرسل الرئيس وودرو ويلسون، قوات مشاة البحرية الأميركية لمنع الفوضى وحماية الأصول الأميركية، لكن انتهى الأمر بإبرام المعاهدة الهايتية الأميركية لعام 1915، والتي أعطت الولايات المتحدة السلطةَ الكاملة على الشؤون المالية الهايتية والحق في التدخل في شؤون هايتي كلما رأت ذلك مناسباً؟
وأيضاً ويلسون هو الذي فرضت إدارتُه انتخابَ رئيس هايتي جديد موالي لها، وهو الأمر الذي لم يرق لشعب هايتي. وفي نهاية المطاف، دفعت الاضطرابات التي أعقبت ذلك الولايات المتحدة إلى تدريب الهايتيين للسيطرة على بلادهم، مما أعطى الرئيس فرانكلين روزفلت فرصةً للانسحاب في عام 1934 بموجب سياسة حسن الجوار.
لكن الولايات المتحدة عادت في عام 1994 من خلال عملية «التمسك بالديمقراطية»، وهي المهمة التي شارك فيها نحو 20 ألف جندي وكان الهدف منها إعادة أول رئيس منتخب ديمقراطياً في هايتي، وهو جان برتراند أريستيد، إلى السلطة، والذي ترك منصبه قسراً في أعقاب الانقلاب. وانضمت القوات الأميركية إلى قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والتي وصلت إلى هناك لأول مرة في عام 1993 وبقيت حتى عام 2000.
ومؤخراً، أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في اجتماع طارئ مع القادة الإقليميين، تقديم 33 مليون دولار إضافية مساعدات إنسانية لهايتي، بالإضافة إلى 100 مليون دولار إضافية لبعثة الدعم الأمني متعددة الجنسيات والتي يفترض أن تدخل وتساعد على استعادة بعض الشعور بالسلام والأمن للسكان. وما تزال الولايات المتحدة أكبر مساهم في المساعدات الإنسانية لهايتي، حيث تبرعت بحوالي 146 مليون دولار منذ السنة المالية 2023.
«إن القول إن هايتي تأتي ضمن أفقر 30 دولة في العالم كله، لا يصف الواقع بشكل كافٍ، إذ يعيش نحو 75% من السكان في ظل الفقر المدقع، وهذا يعني أن الأغلبية الساحقة لا تستطيع الحصول على ما يعتبر الحد الأدنى من المواد الغذائية وغير الغذائية». هذه الكلمات مقتبسة من بيان قمتُ بتقديمه إلى اللجنة الفرعية المعنية بالهجرة واللاجئين والقانون الدولي التابعة للسلطة القضائية بمجلس النواب في يونيو 1980 بصفتي المدير التنفيذي للولايات المتحدة في البنك الدولي. وكانت جلسة الاستماع التي عقدها الكونجرس منذ ما يقرب من 44 عاماً مليئة بشهادات توثق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والفساد الحكومي وسوء الإدارة، وحكايات عدة آلاف من الهايتيين الذين فروا من بلادهم، وهو ما يشبه إلى حد كبير الظروفَ التي نعيشها اليوم.
وكما كان الحال في ذلك الوقت، فإن هايتي دولة صغيرة ستصبح في مرتبة ثانية بالنسبة لبقية العالم إلى أن تنزلق إلى جنون العنف والقتل والاختطاف والتدهور الإنساني.. وهو أمر لا يستطيع العالم المتحضر أن يتجاهله.
إنه يشبه إلى حد كبير عالم الأسقف هولي، الذي تلقت طلباته لرعاية جهوده لإنشاء المدارس وبرامج التدريب الرعوي والطب الريفي العديدَ من الرفض من مجلس إرساليات الكنيسة الأسقفية.
قال «آرييل هنري»، رئيس وزراء هايتي غير المنتخب، والذي أجبرته الولايات المتحدة (التي تعتبره غير فعال) والعصابات (التي تعتبره ضعيفاً وفي الطريق إلى ترك منصبه)، على إعلان استقالته: «هايتي تريد السلام. هايتي تريد الاستقرار. هايتي بحاجة إلى إعادة بناء المؤسسات الديمقراطية».
وكما أدرك هولي اليائس قبل أكثر من مائة عام، فإن الولايات المتحدة تعرف الآن أن هايتي تحتاج إلى الدعم المستدام الذي لا يتزعزع، ولكن ليس على طريقة «وودرو ويلسون».

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»