قرأتُ مؤخراً عن والد رجل الأعمال الأميركي وارن بافيت، هوارد بافيت الذي كان «جمهورياً» وعضواً في الكونجرس لأربع دورات عن ولاية نبراسكا. ويبدو أنه كان والداً صالحاً جداً، ولكن نظرته السياسية للعالم كانت مغرقة في التشاؤم. ذلك أنه كان على قناعة بأن الإنفاق الفيدرالي يدمّر البلاد لدرجة أنه اشترى مزرعة حتى تستطيع أسرته إطعام نفسها بينما يموت الآخرون جوعاً. وتوقّع أن تصبح كل السندات الحكومية عديمة القيمة، فاشترى لبناته حلياً ذهبيةً حتى يكون لديهن شيء ذو قيمة بعد أن يصبح الدولار عديم القيمة. وتجلّى تشاؤمه سياسياً بطرق عدة. أولاً، انعدام كبير للثقة في النخب وميل إلى نظرية المؤامرة.

فقد كان يعتقد أن فرانكلين روزفلت وجورج مارشال استدرجا اليابانيين سراً لمهاجمة قاعدة بيرل هاربور من أجل جر الولايات المتحدة إلى الحرب. ثانياً، الانعزالية الشديدة. ذلك أن الدولة التي تسير نحو الهاوية لا تستطيع تحمل تكلفة أن تكون نشطة دولياً. ثالثاً، التصلب السياسي. فقد رفض التوصل لتسويات أو التفاوض مع «الديمقراطيين» الذين كان يرى أنهم يدمرون البلاد. وكان يؤْثر الخسارة في الكونجرس من أجل إثبات صحة فكرة ما على عقد اتفاق.

بافيت لم يكن الوحيد الذي يفكر بهذه الطريقة. ذلك أن الحزب «الجمهوري» في العشرينيات والثلاثينيات وأوائل الأربعينيات كان مغرقاً في التشاؤم، وكما يحدث في الغالب، اتخذ ذاك التشاؤم شكل معاداة للمهاجرين وانعزالية وحمائية. ففي 1924، حدّد «الجمهوريون» حصصاً صارمة للهجرة بموجب «قانون جونسون- ريد». ومع اقتراب الحرب العالمية الثانية، دعا السيناتور جيرالد ناي إلى تمرير عدد من قوانين الحياد لمنع أميركا من تصدير الأسلحة إلى الدول المتحاربة ومعارضة الإقراض والتأجير لبريطانيا.

ومن جانبه، دعم السيناتور روبرت تافت «حركة أميركا أولاً» قبل انضمام الولايات المتحدة إلى الحرب، وبعد الحرب، عارض «خطة مارشال» وحلف «الناتو» والبنك الدولي و«الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة» («الجات») التي كانت تهدف إلى تقليص الحواجز التجارية.

هذه النسخة من الحزب «الجمهوري» انتهت في 1952، عندما هزم دوايت آيزنهاور منافسَه تافت وظفر بترشيح الحزب «الجمهوري» له للانتخابات الرئاسية. نتيجة أثارت استياء بافيت لدرجة أنه رفض تأييد زعيم حزبه «آيك».

وهو القرار الذي أنهى فعلياً مسيرة «بافيت» السياسية، ثم انتهى به الأمر إلى الانضمام إلى «جمعية جون بيرش» المعادية للمهاجرين. ولئن كان معظم الفضل يُنسب إلى رونالد ريجان، فإن آيك، وليس ريجان، هو الذي حوّل الحزب «الجمهوري» من حزب قلق ومركز على الداخل إلى حزب واثق ومنفتح على الخارج. ذلك أن «آيك» والزعماء «الجمهوريين»، الذين خلفوه كانوا يرون أن الطريقة الوحيدة لمنع مزيد من الحروب العالمية تكمن في إنشاء نظام عالمي ديمقراطي متعدد الأطراف، وكانوا يعتقدون أن أميركا قادرة على قيادة مثل هذا النظام.

ثقة «آيك» أطلقت ستين عاماً من السياسة «الجمهورية» القائمة على التعاون بين الدول، ما أدى تدريجياً إلى ظهور حزب ساعد على هزيمة الشيوعية وتحقيق مزيد من الرخاء العالمي. وريجان غذّى هذا الشعور بالثقة والإمكانية ونمّاه. ففي كلمة له أمام المؤتمر «الجمهوري» في عام 1992، قال هذا الأخير: «كان إيمرسون على حق: فنحن بلد الغد». وقد كان ريجان واثقاً بما يكفي للاعتقاد بأن أميركا تستطيع أن ترحّب بالمهاجرين، وأن تستفيد من قدراتهم، وأن تظل أميركا إذ قال: «إن بلدنا بلد مهاجرين. وقوتنا مستمدة من أصلنا المهاجر وقدرتنا على الترحيب بالقادمين من بلدان أخرى، أكثر م

ن أي بلد آخر». وعلى ما يبدو، فإن بعض الاتجاهات السياسية لا تموت أبداً، وإنما تظل في حالة سبات لبضعة عقود، في انتظار تغيّر المزاج العاطفي. ولئن بات من المألوف القول إن ترامب دمّر المؤسسة «الجمهورية» خلال فترة ما بعد الحرب، فإن هذا ليس صحيحاً تماماً، ذلك أن احتجاج «حركة الشاي»، وتذمرها من مسار الحياة الأميركية كان موجوداً منذ 2009. وقد رصد «مركز بيو للأبحاث» زيادة في الانعزالية الأميركية في 2013. ففي 2004، كان 8% فقط من «الجمهوريين» يعتقدون أن قوة الولايات المتحدة في شؤون العالم في تراجع.

ولكن بحلول 2013، أي بعد حربي العراق وأفغانستان، كان 74% من «الجمهوريين» يعتقدون أن أميركا في حالة تراجع. وبحلول 2021، كان نحو ثلث «الجمهوريين» يعتقدون أن العنف قد يكون ضرورياً لإنقاذ أميركا. بعبارة أخرى، إن العديد من الأميركيين استنتجوا أن البلاد فقدت عظمتها قبل أن يدخل ترامب عالم السياسة، ولكنه قوّى ذاك الشعور واستفاد منه. ثم إن ترامب لم يُعد تشكيل الحزب وفقاً لصورته، وإنما أعاد ترميم نسخة الحزب في الثلاثينيات، ولم يضف إليه سوى أسلوب رجل الاستعراض وبعض الأدوات واللوازم المطلية بالذهب. كثيراً ما يقال إن التاريخ عبارة عن معركة أفكار، ولكنه يكون أحياناً مجرد مجموعة متتالية من الأمزجة.

والواقع أن ثقافة التشاؤم -- اعتقاد ترامب بأننا نعيش في عصر «مذبحة أميركية» -- هي التي أعادت الحزب «الجمهوري» القديم، وليس أي مجموعة من الحجج. فأميركا تتمتع باقتصاد مبهر وقوة عسكرية مهيمنة. صحيح أن الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بات قريباً بشكل خطير من أدنى مستوياته خلال فترة ما بعد الحرب، غير أن «الجمهوريين» يفتقرون على ما يبدو إلى الثقة بالنفس للإيمان بأنهم يستطيعون تحسين العالم، أو قوة الإرادة ليحاولوا ذلك.

الآن، ميتش ماكونيل (زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ)، الذي يُعد من أبناء حزب آيزنهاور- ريجان، يستعد للتنحي عن منصبه. ونيكي هيلي (حاكمة ولاية كارولاينا الجنوبية التي تنافس ترامب في الانتخابات التمهيدية) تسير نحو الهزيمة. وفي الأثناء، قد يقر الكونجرس حزمة مساعدات لأوكرانيا، ولكن ذلك سيكون في الغالب بفضل أصوات «الديمقراطيين»، وليس أصوات «الجمهوريين»؛ لأن الحزب الجمهوري بعد الحرب العالمية الثانية بات في حالة تقهقر.

بعض أصدقائي يعتقدون أنه بعد مغادرة رجل العروض ترامب للمسرح، سيصبح مستقبل الحزب مجهولاً ومحل تساؤل. ولكنني أختلفُ مع هذا الرأي، ذلك أن النزعة «الجمهورية» اليوم لديها جذور عميقة في التاريخ الأميركي. وأظن أن «الجمهوريين» في مرحلة ما بعد ترامب سيكونون أيضاً أكثر تركيزاً على الداخل. وأغلب الظن أن هوارد بافيت كان سيشعر بأنه في حزبه.

*كاتب أميركي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»