في بعض البلدان النامية نسمع كل يوم عن إقالة أو إحالة إلى التقاعد القسري بسبب مخالفة القوانين والنظم واستغلال المنصب والنفوذ، وصولاً إلى السجن ومحاكمة الفاسدين أو هروبهم من العدالة. لكنّ الفاسدين الحقيقيين الذين ينفذون من العدالة هم من يمكثون في مناصبهم إلى ما شاء الله تحت غطاء ما يزعمون أنه التفاني المطلق، أو الادعاء بأن خبراتهم لا تعوض وإدارتهم الاستثنائية للملفات المختلفة وصولاً لمنطقة الثقة المدمرة فيهم وفي قدراتهم وأحكامهم وقراراتهم وتوصياتهم، ناهيك عن ثقتهم الزائدة في أنفسهم وإيمانهم بأنهم أعلم وأفضل من غيرهم، ويشكلون خلايا المصالح المشتركة وبناء المجد الشخصي، وتصبح سلطتهم بوابة للقبول الاجتماعي؛ وبذلك يطغى البشر بكل طباعهم الموروثة والمكتسبة على منظومة العمل المؤسسي.

فالقيادات الإدارية الواعية لصناعة المستقبل يجب أن يكون اختيارها معيارياً وليس شخصياً أو مبنياً على افتراضات أو حقائق ومعطيات مجردة، مثل: التعليم أو المهارات المميزة في جانب مهني لا يدعمها الجانب الشخصي كشخصية الفرد وأنماط التفكير، والخبرات في صنع القرار المستدام الذي يخلق القيمة المضافة وبعد النظر والقدرة على رؤية وقراءة ما لا يراه الآخرون، ويؤمن بالموضوعية، ويتمتع بالمرونة والرشاقة الفكرية، والقدرة على الصمود في وجه المصاعب، وعدم الارتباك تحت الضغوط الكبرى.

فكل شخص مع التدريب من الممكن أن يصبح مديراً، ولكن القائد هو عملة نادرة لا تصنع وهو معدن نفيس نشأ في ظروف جعلت منه أو منها خامة قيادية، ومع الصقل يتحول القائد إلى صاحب رؤية ومن صاحب رؤية يصبح قائداً استراتيجياً، وهي سلسلة لا يمكن القفز فوقها لتجنب سوء الأداء في المخرجات التي تبدو في ظاهرها رائعة ولكنها في جوهرها، قد تؤدي إلى فوضى، وتترك أثراً يحتاج لسنوات طويلة لإصلاحه، وفي الغالب يكون إصلاحها غير ممكناً والتكلفة تفوق قيمة ترك المشكلة أو التحدي أو الخطر القائم.

بعض المدراء يشيّدون، وتنصب جمّ ترشيحاتهم للمناصب على المدراء الذين هم نسخة عن نمطهم الإداري، والذين يمكن قيادتهم وتوجيههم بسهولة تامة ولن يقوموا بأي خطوة مستقلة، ويكونون بمسمى مدراء ولكنهم في الواقع «مدراء مكتب» من عينهم بدرجات عالية، أما القادة فهم دائماً ما ينظرون إلى ما بعد الآفاق البعيدة لاختيار القادة ويقدمونهم للآخرين مع علمهم بأنهم سيبرزون على حسابهم، ولكن الصفات الشخصية للقائد تجعله لا يخشى المنافسة، ويضع نصب عينيه في المقام الأول أن يجعل مؤسسته الأفضل وبالتالي دولته؛ لأنه ينظر خلف المؤسسة وحتى ما وراء معطيات دولته في الداخل وله نظرة ثاقبة في التأثير الكلي للظروف من حوله في الداخل والخارج. ولذلك فمن غير العقلاني والمنطقي أن يتم تعيين مدير لمؤسسة دون تحليل ملفات أنماط سلوكه وقدرته على الإبداع، وهل هو شخصية خلّاقة؟ وهل لديه القدرة على إقناع الآخرين والـتأثير فيهم؟ وهل يعلّم من يتبعه أنهم جزء من القيادة وليسوا تابعين أو مراسلين يأتون ويذهبون بالبيانات والمعلومات وحسب، بل هم صنّاع قرار! ولا سيما أن الأمور التي تشكلنا من الداخل هي التي تظهر علينا في الخارج بغض النظر عن الجنس والسن والخلفية العلمية والمهنية والخبرات والإنجازات، واليوم أصبحت التكنولوجيا وسيلة خارقة تمهد لنا الطرق للتركيز على القادة لكونها تستبدل المدراء تدريجياً وبخطى ثابتة.

وفي البلدان النامية، أصبحت مواجهة أي منظومة للفساد، تتطلب علاجاً من الجذور، لكي لا يعود الفساد مرة أخرى، وبأعداد كثيرة يصعب أحياناً اكتشافها، مع أهمية إعادة هيكلة مفهوم ومصطلح الفساد، واعتراض تحويل ممارسات الفساد إلى سلاح لإدامة النفوذ والحصول على المزيد من المصالح وتقويض كفاءة وفعالية تطبيق القوانين والتشريعات، والإدراك التام أن قمة الفشل هي الخوف من فقدان شخص وبأنه لا يمكن تعويضه، وهنا فقط نعلم أننا لم نبني منظومة للنجاح بل أفراداً نراهم نحن وفق معاييرنا الخاصة ناجحين.

*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.