أطلَقوا عليها لقبَ صاحبة الجلالة، ومنهم مَن أسماها مهنة المتاعب، وغير ذلك من التسميات والألقاب.. إنها الصحافة التي تستمد روحَها من الكلمة ومحاولة البحث والتقصي، أي «الفضول الإيجابي»، وذلك عندما يكدّ الصحفي في البحث عن الحقيقة بكل شفافية وموضوعية. كان للصحافة حضورها ودورها الكبير والمؤثر في المجتمعات، لا سيما في أوقات الأزمات والحروب، إذ كانت الوسيلة الأهم لتقصِّي الأخبار والمعلومات، ما أكسبها احتراماً وتقديراً كبيرين. لكن هذه المهنة التي نشأت مستقلةً، واكتسبت مع الوقت شيئاً من الهيبة، سرعان ما امتلكتها الحكومات أيضاً، وأصبحت صدى لما يحدث في دوائر صنع القرار. وهناك في تاريخنا العربي المعاصر أسماء صحفية كبيرة داوم أصحابُها على التقرب من الرؤساء للوصول إلى معلومات أو أخبار تهم العامة، أو يرغب أصحاب القرار في تسويقها من خلالهم، ومن هؤلاء الصحفيين -على سبيل المثال لا الحصر- الصحفي المصري الراحل محمد حسنين هيكل، الذي ارتبط بعلاقة مميزة مع الرئيس جمال عبد الناصر، في مشهد يترجم معنى علاقة الصحفي بالسياسي، حيث ساعدت هذه العلاقة هيكلَ على أن يكون اسماً لامعاً ومشهوراً على الصعيد الإعلامي، من خلال ما كان ينفرد به من أخبار وتحليلات ناتجة عن قربه مِن مراكز القرار الرسمي المصري، لدرجة أن عموده «بصراحة»، والذي بدأ يكتبه منذ عام 1957 في «الأهرام»، و«أخبار اليوم»، و«آخر ساعة»، وبعض الصحف العربية الأخرى.. كان يستحوذ على اهتمام القارئ في مختلف البلدان العربية.وتبرز من خلال مقالات هيكل في أواخر الخمسينيات درجة قربه من مراكز القرار، وهو الذي تقرّر أن يشرف على أهم المؤسسات الصحافية المصرية من أجل أن يقدّم «مقولة الدولة المصرية الجديدة» النابعة من مخاض «ثورة 23 يوليو». وكما نعلم فقد كان الهاجس الرئيس في هذه الفترة هو بلورة خطاب الدولة، ويصعب العثور على مادة مكتوبة أكثر تلاصقاً مع هذه الرغبة من كتابات هيكل، إذ كان على مدى سنوات عارفاً بمعظم الأحداث العالمية والإقليمية، وكان يقدّم حولها مقولات تتماشى مع مطامح المشروع العام، ما يجعل منها بعد فترة رأياً عاماً. ومن أمثلة العلاقة بين الصحافي والسياسي، نذكر علاقةَ الكاتب الصحفي أنيس منصور بالرئيس الراحل أنور السادات، حيث بدأ أنيس حياتَه المهنية في العديد من الصحف الحكومية الرائدة، مثل «أخبار اليوم»، و«الهلال»، و«الأهرام». وعندما أسس الرئيس السادات عدداً من الصحف والمجلات، مثل «أكتوبر»، و«آخر ساعة»، و«الجيل».. كان منصور من المديرين الذين قادوا هذه المجلات. وكما هو الحال مع هيكل، فقد ساعدت العلاقة بين أنيس منصور والرئيس الراحل السادات، على ظهور منصور بشكل كبير في الساحة الإعلامية المصرية والعربية. وكان قرب الصحفي من مراكز القرار يشكّل وسيلة مهمة لوقوفه على المعلومات والأخبار، ولمعرفة ما ينبغي ترويجه من مواقف وتحليلات تلعب دوراً كبيراً في بلورة الرأي العام، حيث يستند الجمهور على ما ينشره هذا الصحفي في تحليلاته ومحاولاته لفهم ما يجري من تطورات، لدرجة أنه قد يمثل البوصلةَ التي ترشد متابعيه لسبر أغوار الأحداث وفهم تفاصيلها. وهناك الكثير من الأسماء الإعلامية البارزة، التي ساهم قربُها من مراكز القرار السياسي في الظهور، وكان لها أثرُها الواضح في الحياة العامة، ليس بالنسبة لمهنة الصحافة فقط، وإنما أيضاً بالنسبة لكثير من مناحي الحياة. لكن اللافت للانتباه هو أن بعض هؤلاء الصحفيين القريبين من مراكز القرار، لم يحافظوا على مواقفهم حيال أولئك الساسة، بعد مغادرتهم كرسي الحكم، لسبب من الأسباب، لدرجة أن بعضهم سارعوا إلى مهاجمة القادة السابقين، وهو أمر أثّر في مصداقية أولئك الصحفيين، وربما أفقد المجتمعَ ثقتَه في الإعلام وسيلة لإيصال الحقيقة بكل بشفافية وأمانة وصدق! *كاتب سعودي