بعد ما مر به العالم ويمر به من أزمات تعد من أكبر التهديدات للوجود البشري على الكرة الأرضية، برزت وبقوة في الدول الأكثر تطوراً وتقدماً أهميةُ المفكرين والمخططين الاستراتيجيين الذين يتقنون فن تطوير السيناريوهات الاستراتيجية المعقدة، ليلامسوا بها ما لا يستطيع الموظفون التقليديون الوصول إليه في كثير من المجالات، وحتى أولئك الذين يملكون منهم أفضل المؤهلات، لكن تشكل لديهم أنماط التفكير وحل المشكلات وإيجاد الحلول تحدياً لا يقل أهمية عن الغموض الذي يواجه البشرية إزاء ما يقع من كوارث بفعل الطبيعة. وهو ما يجعل التخطيط الاستراتيجي الممنهج عائقاً بقدر ما هو حل، والركون إلى انتظار ما قد يحدث في المستقبل بدلاً من صناعة البيئة الملائمة للوصول إلى القمة والبقاء فيها.
إن التخطيط للمستقبل يجب أن لا يكتفي بتجميع وتحليل المعلومات وبإدارة البيانات ورصد التوجهات والأحداث، ومتابعة الدراسات والأبحاث وتسخير التكنولوجيا المتقدمة للتنبؤ بالكوارث والحد من تبعاتها فقط.. بل يجب البحث والاستثمار في مستشرفي المستقبل ممن يستطيعون توقع واستشراف مديات قد تصل إلى 50 عاماً أو أكثر، على أن يتخصّص كلٌّ منهم في مجال معين، بل في جزئية واحدة داخل كل تخصص، وأن يكونوا متفرغين تماماً، لاسيما في ظل البيروقراطية الهرمية التي ما تزال منتشرة في مؤسسات العالم اليوم، والتي كانت بمثابة تقدم كبير عندما تمت إقامتها قبل أكثر من 150 عاماً، وظلت بمثابة عمل يتم تنظيمه من خلال أفراد يقدمون تقاريرهم إلى رؤسائهم الذين يخبرونهم بما يجب عليهم فعله بالتفصيل. وأدوار الأشخاص في النظام البيروقراطي لم تصمّم لمواجهة تحديات ومخاطر وتهديدات الوقت الحاضر، لكنها محمية بالتشريعات والمهام المعتمدة والمؤشرات الاستراتيجية، والتي هي منطقة راحة تتفاجأ من خلالها الدول بأزمات غير متوقعة، بينما ينغمس الطاقم الوظيفي في العمل التشغيلي من دون أي دور للنظر الاستراتيجي المقيد بالنتائج والإنجازات والأرقام والمؤشرات فقط، من دون وجود نظرة شمولية ونظم تفاعلية استباقية للتحديات والمخاطر والتهديدات. 
وقد استيقظ العالم من سباته ذات يوم ليجد نفسه في حال مضطرب ومتغير من دون توقف، حال يتطلب الابتكار المستمر. وفي هذا السياق المتذبذب، وبمساحات عدم يقين شاسعة، تبخرت نقاط قوة البيروقراطية الهرمية، وأصبحت القدرة على التنبؤ تحتاج إلى الرشاقة وخفة الحركة. وفي ضوء هذه المشاكل بدأ القادة الملهمون في إعادة التفكير بشكل أساسي حول الطريقة التي تدار بها المنظمات، وبدأوا بالعمل على عكس الديناميكيات الأساسية للتطورات الحديثة لنسف الديناميكية الرأسية للبيروقراطية تدريجياً، والبعد عن أن تكون الأعمال والمهام مرتبطة بالمناصب، وقياس الأداء الذي لا يضع النوعية والتأثير المستدام، ونقل ومشاركة المعرفة مع الفرق المشتركة وإعداد التقارير البحثية وحجم التأثير في محيط العمل وبيئته ككل، والتعلّم المتبادل في بيئة إنتاجية مشتركة كأساس للترقيات وسلم الرواتب.
والمشكلة في بعض البلدان النامية تكمن في الاعتماد على معايير غير موضوعية وعلى الإنجازات السريعة التي يكون أثرها الإيجابي مبهراً كمهام تنفذ في البداية ولكن يبقى التأثير الحقيقي - بعد مرور الوقت الكافي - ضعيفاً للغاية أو ربما تأثيراً عكسياً، وقد يكون ضاراً على المدى البعيد.
ومن هنا يأتي الحديث عن أفضل سرّ تحتفظ به الإدارة حالياً، ألا وهو الرشاقة والمرونة والصمود.. بفضل القيادة المؤسسية التكاملية، والتي يقود من خلالها كل فرد في المؤسسة، وتكون القيادة مشتركة لضمان عدم وقوع المؤسسة ضحية للعقل الفردي الخارق للعادة!

*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات