في حدث ينطلق من ركيزتين أساسيتين من ركائز النموذج الفريد لدولة الإمارات، ألا وهما ركيزة الانفتاح الخلاق على الآخر، وركيزة التنوع المُثري للمعرفة والمعزز للتقارب، استضافت دبي، الأربعاء 3 يناير 2024، تحت رعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، دورة جديدة من «المنتدى الاستراتيجي العربي» تحت عنوان «حالة العالم العربي سياسياً واقتصادياً 2024».
وقد حدد وزير شؤون مجلس الوزراء رئيس «المنتدى الاستراتيجي العربي»، محمد بن عبدالله القرقاوي، ثلاثة أهداف أساسية لهذه الدورة، هي: تشكيل فهم معمق حول الاتجاهات العالمية السياسية والاقتصادية؛ وتحديد موقع العالم العربي والمنطقة من هذه التطورات؛ وأخيراً، بناء رؤية لتطوير الدور العالمي المتنامي لدول الخليج العربية بما يضمن مستقبلاً مستقراً لهذه الدول، وهو المستقبل الذي بات أكثر تأثراً بديناميات التفاعلات الدولية الرئيسة بين القوى الكبرى.
تعكس هذه الأهداف بوضوح إدراك العقل السياسي الإماراتي للسيناريوهات المفتوحة التي يحملها مشهد الصراع والاستقطاب الدولي الحالي، والتحديات التي تطرحها اتجاهات التطور المحتملة لهذا الصراع على مستقبل دول الخليج العربية وعلى استقرار المنطقة. وكشف جانب من حوارات المنتدى بوضوح عن وجود رهان دولي من قبل القوى الكبرى على هذا الدور الخليجي وتعزيزه.
وبينما يسعى كل من طرفي الاستقطاب العالمي الراهن لجذب دول الخليج العربية إلى فلك أهدافه، فإن خيار الانجذاب هذا لا يبدو مفيداً بأي حال لمصالح دول الخليج العربية، بالنظر إلى عدم جدوى ارتهان القوى المتوسطة، ومن ضمنها دول الخليج العربية، للإطار الضيق للقطبية الذي لن يقيد فقط قدرتها على الحركة والنمو، وتعزيز المقدرات الوطنية الذاتية، ولكن سيجعلها أيضاً هدفاً لأي تفاعلات صراعية بين القوى الكبرى.
وقد نجحت دول الخليج العربية حتى اللحظة في الحفاظ على التنويع المتوازن لعلاقاتها مع القوى الكبرى. ويبدو النموذج الإماراتي في هذا الصدد شديد التميز والإيجابية، حيث أتاح لها هذا التوازن توسيع آفاق النمو، وتعزيز دورها الإقليمي والعالمي الداعم للاستقرار والسلام. وباتت دول الخليج العربية إحدى ركائز الاستقرار العالمي من خلال هذا «التنوع المتوازن» وأدوار الوساطة التي تمارسها بين القوى الكبرى. لكن في ظل المؤشرات العديدة بشأن اتجاه الصراع الدولي نحو مزيد من التعقيد والحدة خلال العقدين المقبلين، ستواجه العديد من قوى العالم المتوسطة، تحدي الاستقطاب، وانحسار نطاق المناورة لضمان توازن حضورها الدولي.
ويبدو أن رهان صنع مستقبل آمن ومتوازن أمام دول الخليج العربية يتمثل في تعزيز توجهها نحو ضمان استقلاليتها الدولية. ويقدم النموذج الإماراتي أطراً موجِّهة يتعين الانتباه إليها وتعزيزها من خلال العمل الخليجي المشترك والمنسق، وهي:
- تطوير المقدرات الوطنية المعرفية، حيث تُعد المعرفة والتطوير التكنولوجي المرتبط بها محور أي قدرة على الفعل والتأثير في المستقبل المنظور. ومع تعزيز الولايات المتحدة والصين ريادتهما للسباق العالمي في مجال المعرفة، يلاحظ أن وزن القوى التقليدية في هذا الميدان يتراجع. وهنا تبرز فرصة فريدة وواقعية لانخراط دول الخليج العربية بشكل قوي ومؤثر في هذا السباق العالمي نحو قوة المعرفة.
- إرساء تكتل متماسك من القوى المتوسطة التي تتبنى توجهاً لتعزيز شروط وأطر «سلام إنساني مستدام»، يتأسس على إدراك أن التحديات والمخاطر التي يواجهها الإنسان اليوم هي مخاطر عالمية الطابع، توفر فرصاً جدية لتعزيز التعاون الدولي المشترك.
- بناء قدرات حماية السلام وتعزيزه في مواجهة طيف واسع من التهديدات الأمنية، ولا يتعلق الأمر بالقدرة العسكرية فقط، بل بالقدرات الشاملة للدول.
إن هذا النهج الذي يتجلى بوضوح في مختلف جوانب السياسة العامة لدولة الإمارات، يمثل الرهان الحقيقي لصنع مستقبل أكثر استقلالاً وأمناً واستقراراً ليس فقط لدول الخليج العربية، ولكن للنظام العالمي في مجمله الذي يُتوقع أن يواجه خلال أمد غير بعيد عواصف صراع دولي غير منضبط تتزايد مؤشراته في الأفق.

*صادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية