مع بداية عام 2023 شهدت الأحوال المعيشية هزات في روسيا، وبدا اقتصادها متأثراً تحت ثقل 11 رزمة من العقوبات الشاملة، لكن المؤشرات تغيرت مع حلول الخريف، وانتقلت من الجمود إلى تحسن ملحوظ في بعض القطاعات، في ظل قدرة البلاد على التعايش مع العقوبات الاقتصادية الغربية. ونتيجةً لذلك انتقلت روسيا نحو تسجيل أرقام نمو في مجالات عدة، حتى إن البنك المركزي الروسي توقع ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بنحو 2.5%، متجاوزاً نظيرَه في الاتحاد الأوروبي.
وفيما تسعى الولايات المتحدة مع الدول السبع الكبرى لإقرار مقترح بمصادرة 300 مليار دولار من الأصول الروسية المجمدة، وتنفيذه قبل الذكرى الثانية لاندلاع حرب أوكرانيا في 24 فبراير المقبل، تستعد موسكو لمواجهة الخطة الأميركية، وهي تعيش مرحلة تحضيرية لمعركة الانتخابات الرئاسية في مارس المقبل. لكن في سياق العقوبات الغربية، على خلفية حرب أوكرانيا، تعاني روسيا انخفاضاً في عائداتها النفطية، بعد تراجع إيراداتها بمقدار الثلث في العام الماضي، مقارنةً بعام 2022، علماً أنه وفق مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي، فقد انخفضت الضرائب الروسية من صادرات النفط ومنتجاته بنسبة 32%، بينما تحتاج البلاد إلى موارد مالية إضافية مع زيادة الإنفاق العسكري بنسبة 70%.
وإذا كانت بعض التقديرات المتفائلة تميل إلى توقع إنهاء الحرب في الربع الثالث من العام الحالي، فإن بيانات وزارة المالية الروسية تتوقع استمرارها لسنوات عدة قادمة، ولذا فإن الإنفاق العسكري في العام الحالي سيكون ثلاثة أضعاف ما يُخطَّط لإنفاقه على قطاعات الصحة والتعليم وحماية البيئة.. وهو أضخم إنفاق عسكري منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. وقد اعتمد «الدوما» (مجلس النواب في البرلمان الروسي) قانون الميزانية الفيديرالية، بعجز بلغ 18 مليار دولار (411 مليار دولار للنفقات، مقابل 393 مليار دولار للإيرادات). وقد يرتفع هذا العجز مع اعتماد خطة العمل للعامين المقبلين إلى نحو 44 مليار دولار للسنوات الثلاث القادمة. ووفقاً لوثائق الموازنة التي تحدد الخطط المالية للفترة 2024-2026، فسيبلغ إجمالي الإنفاق على «الدفاع الوطني» نحو109 مليارات دولار في العام الحالي. ولذا تُعد روسيا اقتصادها لحرب طويلة، وهي تراهن على أن «تركيز الاقتصاد بشكل مباشر أكثرَ على الحرب سيسمح لها بالصمود في وجه صراع طويل الأمد، وذلك على نحو أفضل من أوكرانيا وداعميها الغربيين». وفي معرض حديثه عن الإنتاج العسكري، قال الرئيس فلاديمير بوتين: «إننا نزيده بمرات عدة».
وتظهِر البيانات أن القطاعات الصناعية المرتبطة بالإنتاج العسكري تنمو بمعدلات تزيد على 10%. ولوحظ أن الحرب الأوكرانية ساهمت على الجانب الروسي في دعم الإنتاج الصناعي، وتوفير فرص العمل، وزيادة الأجور.. خصوصاً مع تحول العديد من مراكز التسوق إلى شركات لصناعة طائرات من دون طيار، وتجميع الإطارات الكربونية والهوائيات وحاملات الكاميرات، واستخدام طابعات ثلاثية الأبعاد لتصنيع بعض الأجزاء.. كما تقوم شركة لصانعة الدراجات الرباعية في سبيريا بتنفيذ عقد حكومي لتصنيع 70 مركبة. ويقوم الجيش بنشاط قوي في قطاع البناء في المناطق المتاخمة لأوكرانيا، وبإجراء أعمال الإصلاح والترميم بعد الضربات التي تعرضت لها السكك الحديدية وغيرها من مكونات البنية التحتية.
وتبقى الإشارة إلى أن معدل البطالة قبل الحرب كان 2.9%، بينما تسجل روسيا الآن نقصاً في العمالة بنحو 4.8 مليون عامل، حيث ارتفع عدد الوظائف الشاغرة في إجمالي القوى العاملة إلى 6.8%. ويعود السبب إلى التركيبة السكانية الخاصة، وهجرة الشباب خلال السنوات الأخيرة. 

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية