مرت إحدى وعشرون سنة على مبادرة السلام العربية التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى، في قمة بيروت عام 2002 ولم تقبل بها إسرائيل، رغم ما تَضْمنه لها من اعتراف عربي جماعي بعد إنهاء الصراع، مقابل استعادة الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وعودة اللاجئين الفلسطينيين وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. لكن إسرائيل رفضت مبدأ «الأرض مقابل السلام» وقال قادتها: بل «السلام مقابل السلام». ومعلوم أن المبادرة العربية ما تزال حية على الورق، ولم تنسحب أي دولة عربية منها، بل هناك مطالبات ببث روح الحياة فيها. 
لكن إسرائيل مطمئنة إلى أن العرب أغلقوا ملف الحرب، ولن يهددها أحد منهم، بل هم راغبون بجدية في متابعة مسار السلام، وقابلون للعيش المشترك ولإقامة علاقات طبيعية بما لا يتنافى مع حفاظهم على حقوق الشعب الفلسطيني. وهم مصرون على «حل الدولتين» وعدم التفريط بالثوابت الفلسطينية.. لكن إسرائيل لم تتقدم خطوة عملية واحدة على طريق القبول بالمبادرة العربية، بل تمكَّن اليمينُ المتشدد فيها من قيادة الحكومة نحو مزيد من التضييق على الفلسطينيين والتوسع في بناء المستوطنات، وإحكام الحصار على غزة التي باتت سجناً كبيراً لسكانها.
وبعد أن ظن كثير من الناس أن الدول العربية تخلت عن القضية الفلسطينية، فوجئوا باصطفاف هذه الدول جميعاً مع الأشقاء الفلسطينيين، وهو اصطفاف برز بقوة في الأمم المتحدة وقد عبّرت عنه دولة الإمارات باسم العرب جميعاً داخل مجلس الأمن الدولي.
وسعت الدول العربية بقوة إلى وقف إطلاق النار في غزة وإدخال المساعدات ومنع التهجير، وهو موقف مؤثر ومهم. وكذلك مواقف شعوب العالم التي كشفت عن يقظة الوجدان الإنساني العام. والمفارقة أن قوى سياسية واجتماعية مهمة من الإسرائيليين أنفسهم عبَّرت عن غضبها ورفضها للعقاب الجماعي الذي شنته إسرائيل ضد قطاع غزة. وحتى الولايات المتحدة التي حشدت أضخم قواتها العسكرية البحرية والجوية للدفاع عن إسرائيل، فوجئت بحجم التظاهرات الشعبية الأميركية ضد الاجتياح الإسرائيلي لغزة. وكان من أبرز التظاهرات الدولية ما شهدته بروكلين من مظاهرات لليهود الأميركيين الرافضين للحملة العسكرية الشاملة ضد مقومات الحياة في غزة، مع فرض سياسة التجويع والتشريد والتهجير القسري. وقد استنكر العالمُ كلُّه مقتلَ آلاف الأطفال والنساء وهدم المستشفيات وتصفية المرضى والأطفال الخدج في الحاضنات. وكان مهماً موقف شعوب العالم، وبخاصة في شوارع لندن التي وصف المراقبون تظاهراتِها بأنها حدث غير مسبوق في حجمه. وكذلك مواقف الشرفاء في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والعديد من دول العالم الغربي. 

بل إن بعض الصحف الإسرائيلية حملت صفحاتُها مقالاتٍ تستنكر اجتياحَ إسرائيل لغزة، ووصل الاحتجاج إلى المطالبة بحجب الثقة عن الحكومة الإسرائيلية. ومن أهم المقالات التي نشرتها الصحف الإسرائيلية ما كتبه المفكر الإسرائيلي «يوسي كلاين هاليفي» في صحيفة «تايمز أوف إسرائيل»، حيث أعرب عن مخاوفه من «عزلة» الدولة العبرية، محذراً من السقوط الأخلاقي لإسرائيل أمام المجتمع الدولي، ومذكراً بقول الأمين العام للأمم المتحدة إن هجوم الفلسطينيين «لم يأت من فراغ»، مشيراً إلى عقود من المعاناة في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
لقد عاد للقضية الفلسطينية وهجُها وحضورُها في اهتمام العالَم كله بعد الاجتياح الإسرائيلي لغزة. ولو أن قادة إسرائيل يمتلكون الحكمةَ والصبر لسألوا أنفسهم: لماذا فعل الفلسطينيون ما فعلوا؟ ومتى ينبغي أن ينتهي الحصار المفروض على غزة؟
تصر إسرائيل اليوم على تهجير الفلسطينيين وتشريدهم من جديد، وتخطط لحشرهم ضمن أسوار ستزيد من حنقهم وإصرارهم على متابعة مسارهم مع الآلام والعذاب، وهم يدركون خطر التهجير الثالث بعد هجرتي 1948 و1967، ولذا يتمسكون بحقهم في أرضهم، وقد سقوا ترابَها بدمائهم وعرق معاناتهم. 

*وزير الثقافة السوري السابق