هناك حرب إعلامية سلاحها الصور وما يجري في غزة ماثل أمامنا والأخطر في ذلك، هو أن مآلات الصور تحددها رغبات الاستقبال، وإن بدا ظاهرياً أن لعبة الإرسال ونوايا المرسل وصانع الصورة هي ما تقرر مآلات الصورة، بينما الحقيقة الثقافية أننا كبشر أجهزة مفاهيمية تشكلت عبر أزمنة تطول أو تقصر وفق ما نختزنه من تصورات ربما ابتدأت عندنا بوصفها ميولاً نفسية أو سياسية أو قناعات أيديولوجية.

ولكن الأسباب مهما كانت تختفي مع الزمن في حين يبقى الانطباع الأولي لها ليترسخ مع الوقت ويظل في حال سكون إلى أن تحركه حادثة من نوع ما. وفي حال غزة فإن قصف مستشفى المعمداني يوم 2023/10/17 تحول مباشرةً إلى صورة متلفزة على كل شاشات العالم ورافقته روايتان فلسطينية وإسرائيلية عمن كان وراء الحادثة، وما إن انتشرت الرواية الإسرائيلية حتى تراجعت صورة الضحايا وحلت محلها صور مختزنة تضمر الانحيازات المترسخة حول المواقف المسطرة بين داعم للموقف الإسرائيلي وداعم للموقف الفلسطيني، ومن ثم أصبح تصديق أو تكذيب إحدى الروايتين هو الراسم لاستقبال الخبر والتعامل معه.

وهنا لن تكون الصورة عن ألف كلمة كما هي القناعة القديمة، وإنما أصبحت الصورة ثانوية. وفي الخلفية المعتمة للحدث، وذلك بسبب قوة المخزونات الثقافية ذات الطابع الاستقطابي مما جعل التصور الذهني يطغى على العيان البصري. وهذه واحدة من أشد حالات انتصار الكلمة على الصورة، وهنا نرى كيف أن الكلام أقوى من الصورة في صناعة الكذب أو الصدق، مع حرف التعاطف الذي كان يجب أخلاقيا أن يكون مع الضحايا الذين سقطوا تحت أنقاض المستشفى إلى أن يكون حالة اصطفاف، وهو اصطفاف تَصنّعَ قبل وقوع الحدث نفسه. ومن ثم أصبح تفسير الحدث أهم من الحدث، من حيث إن المرافعة عن حالات الاستقطاب أعلى صوتاً من تحفيز التعاطف مع الضحايا الذين ليس لهم صوت في هذه الحالة سوى الصورة التي تقول إن أطفالاً ومرضى سقطوا موتى بسبب الحادثة وأن مستشفى قد تم قصفه، ولكن هذا يغيب لأن حالات الاستقبال هي ما يقرر مصير الصورة مهما كشفت الصورة وأفصحت عن حقيقة يجري مسحها وإحلال حقيقة أخرى مصنعة من مخازن الاصطفافات المسبقة.

*كاتب ومفكر سعودي- أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض.