تعج الطبيعة على امتدادها بألوان وأصناف زاهية، يصعب أحياناً على الإنسان التعرف عليها لغرابتها. وهي إحدى صور الإعجاز الإلهي الدالة على عظمة الخالق وبديع خَلقه سبحانه وتعالى، لا سيما أن كل النباتات وثمارها، أخضره وأصفره وأحمره، كبيره وصغيره.. يخرج من تربة واحدة، ويتلقى الري بالماء ذاته. يقول الحق سبحانه وتعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا». ومن هنا فإن الاختلاف والتنوع من الأسس والمعاني البارزة للخَلق. 
وحين تشابهت الكائنات واشتركت في ذلك، فقد مثّل الاختلاف البشري نقطة محورية في تحريك التطور الإنساني، وتشكيل الحضارات، وتوالدها ضمن نماذج معرفية وفكرية وثقافية متجددة باستمرار. وبالتالي فأي مجتمع خالٍ من الاختلاف والتعدد هو صحيفة باهتة اللون، ذلك أنه حتى هويتها التي تعتز وتفتخر بها، لا مكان لإحياء نبضها. ولا أظن أن هذا القالب «الخيالي» موجود إلا في الأساطير القديمة أو الجغرافيات المعزولة عن حركة التاريخ الإنساني، تعبيراً عن فكرة السيطرة على الجغرافيا باعتبارها وسيلةً لصون الهوية المغلقة!
وفي تشبيه «بعيد قريب» لهذه «الاغترابات» المحرومة من متعة التعارف والاندماج، نجد أن الأساس الذي تدافع عنه في رحلة نضالها الطويلة، بُني على مغالطات هائلة. فقبيلة «نانتيس»، على سبيل المثال لا الحصر، تعيش إلى غاية يومنا هذا في عالم موازٍ يستجدي من المنجمين علاج المرضى الذين لا تبرير لما يحصل معهم إذا فشلت أعشاب الغابة من معالجتهم. فهل يتحقق بانعزال المجتمع حفظ هويته وبقاؤها نقيةً؟ 
إن الأمرَ ذاته يقاس على العديد من الأفراد الذين عايشوا الاختلاط الحضاري، والتثاقف وتجاذباته، لكنهم ما زالوا يصرون على موقف أحادي القطب في رحلتهم الفكرية والمعرفية، وعلى «تجميد» هويتهم وتحنيطها بدلاً من الاعتزاز بها، الأمر الذي لا يتحقق دون سريان تلك السيمفونية المتقنة من التثاقف والتعارف والاندماج الإنساني في بوتقة واسعة تتمثل في التسامح وتقبّل الآخر من دون شروط.
إن تدافع موجات التغيير و«جنون التطور» الذي يواجهه الإنسان في عالم اليوم، أدى لإحداث تصدعات بالغة القسوة على البنية النفسية والاجتماعية للإنسان، أي على عقليته وتوجهاته الفكرية، لا سيما في ملامح منظومته القيمية والأخلاقية. وهذا إذا ما تمت معاينته بعدسة الحاذق لا القلق الخائف، يتضح أنه لا بد أن يكون سبباً وجيهاً في الدفع بكافة القوى البشرية نحو العثور على صيغ أكثر اتساقاً فيما بينها، والذي مهما تعدد أو تشعب فإنه لن يطرح فكرة الانعزال أو تأسيس عالم داخل عالم أو مجتمع داخل مجتمع.. بل يسعى لتأصيل الوجود الذي يؤمن بالمشترك الإنساني ويسمو بكافة الإجراءات الهادفة إلى صون القواعد القيمية والأخلاقية باعتبارها نواة وبذرة السلوك الإنساني الأصيل.
إن الحديث عن الاندماج والتقارب الإنساني الحقيقي ليس ترفاً، لا سيما في ظل استمرار العديد من مظاهر التكاسل عند المشاركة في هذا المشروع الحضاري العام والشامل، وليس هذا السبب الوحيد، بل تقف إلى جانبه عدة بواعث إنسانية المنشأ، من قبيل «صناعة الجدليات» من أجل تحقيق الذات وما يطابقها من مصالح، دون التفات إلى أولوية القضايا الإنسانية الكبرى، وصون الطاقة بدلاً من هدرها. وبالتالي فإن نشر ثقافة «قدسية التعايش» بات يقف على سلم الرهانات العالمية الهامة. 

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة