قبل (800) عام كان الاستخدام الأول لكلمة الرأسمالية على صعيد اللغة اللاتينية، وقبل (300) عام تبلورت الكلمة لتدلَّ على نظام اقتصادي يقوم على الملكيّة الخاصة، وتحقيق المنفعة.

حسب مؤرخي الاقتصاد فقد كان كتاب آدم سميث «ثروة الأمم».. ونظرية ديفيد هيوم عن النفعيّة، هى معالم الانتقال من «عصر الإقطاع» إلى «عصر الرأسمالية»، وكان لظهور الطبقة البرجوازية الدور الحاسم في ذلك الانتقال. لاحقاً ظهرت الاشتراكية لتواجه الرأسمالية، وتأسست نظريات ترى الحل في الملكية العامة وسيطرة الدولة.. في مقابل نظريات الملكية الخاصة وسيطرة الشركة.

وكان من نتائج تلك النظريات تأسيس الاتحاد السوفييتي قبل نحو (100) عام، ونجاح الثورة الشيوعية في الصين قبل ثلاثة أرباع القرن. في ندوة بعنوان «هل هو نظام عالمي جديد؟» عقدها منتدى دبي للإعلام 2023، سعدتُ فيها بمشاركة السادة المتحدثين: الدكتور محمد الرميحي، الكاتب إياد أبو شقرا، والإعلامي عبد العزيز الخميس، وأدارتها بمهارتها المعهودة الإعلامية نوفر رمول.. تجدّد الحديث عن النظام العالمي، وعن الأحادية أو الثنائية أو التعددية في سقف العالم.

كان من بين ما قلته في تلك الندوة.. أن النظام العالمي لم يعُد منقسمًا بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي، فقد أصبح الشرق كالغرب، كلاهما رأسمالي. فلا فرق بين الصين والولايات المتحدة أو بين روسيا وأوروبا، فقد سادت الرأسمالية كنظام اقتصادي عالمي، لم يعد فيه سوى استثناء وشبه استثناء.. الاستثناء هو كوريا الشمالية، وشبه الاستثناء هو كوبا، والتي بدأت رحلة هادئة باتجاه الرأسمالية.

إن الانقسام الحقيقي الذي يحكم القرن الحادي والعشرين ليس بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي، بل هو بين الشمال الغني والجنوب الفقير. وإذا كان كل العالم (أكثر من 200 دولة) رأسمالياً، فإن التمييز لم يعد إيديولوجياً، فلقد سادت إيديولوجيا واحدة الجميع، وإنما صار التمييز بين نوعين من الرأسمالية هما: الرأسمالية الناجحة والرأسمالية الفاشلة.

إن دول جنوب الصحراء الكبرى كلها رأسمالية، وهى إيديولوجياً من حيث الاقتصاد كغرب أوروبا، لا اختلاف بينهما، لكن ثمة رأسمالية ناجحة في الشمال، ورأسمالية فاشلة في الجنوب. ثمة رأسمالية تحكم البنك والصندوق، ورأسمالية يحكمها البنك والصندوق.

لقد امتازت الاشتراكية على الرأسمالية في القرن العشرين، ثم هزمت الرأسمالية الاشتراكية في القرن الحادي والعشرين. واليوم لم تعد الرأسمالية تواجه خطراً حقيقياً من داخلها، بل إن الخطر بات داخلياً، فالصراع لم يعُد بين الرأسمالية وأعدائها، بل صار بين الرأسماليين أنفسهم، والخطر الحقيقي يتجمع كتسونامي في أقاصي الرأسمالية، وها هو يهدد اليابس الرأسمالي، إذْ يقترب منه في كل يوم. في عام 2008 قال آلان جرينسبان أشهر رؤساء بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي: لقد وجدتُ شرخًا في الأيديولوجيا التي أومن بها.

لا تزال «الرأسمالية الناجحة» قادرة على التجديد والإصلاح، وتكمن المعضلة الأكبر في «الرأسمالية الفاشلة».. تلك التي اطاحت بنظريات العدالة الاجتماعية، ثم أطاحت بنظريات الربح والثراء، فلا هي نجحت ذات اليمين ولا هي نجحت ذات اليسار. في العديد من نظم الجنوب.. يعتنقون الرأسمالية، ويعظمون البراجماتية، ويروجون للعولمة.. ثم إنهم يفشلون في كل شيء. الرأسمالية الفاشلة هي المعادل الاقتصادي للدولة الفاشلة.

*كاتب مصري