كان قانون الوئام المدني خاتمة حكيمة لما سمي «العشرية السوداء في الجزائر»، وكان الرئيس بوتفليقة (رحمه الله) قد أصدر هذا القانون ضمن مشروع إصلاحي بعد انتخابه رئيساً في نهاية القرن العشرين.

ومع أنني أدرك الاختلافات العديدة بين ما حدث في الجزائر وبين ما حدث في سوريا، فهناك تشابهات كثيرة بين حالتي الانقسام الاجتماعي في البلدين.. فهل تحتاج سوريا لاحقاً لقانون وئام يفتح بوابة جديدة للمستقبل؟

لقد باتت الشروخ التي حدثت في المجتمع السوري خطيرة جداً، لكنها قابلة للترميم رغم فداحتها، إذا تم الخروج الجماعي من مستنقع الدم ومن هوة أوساخ التاريخ التي نبشت أحداثاً وقعت قبل ألف ومائتي عام، وإذا تم الاتفاق على الاعتراف بحق كل مواطن سوري في اختيار معتقده وفكره وبحقه في التعبير عنه دون أي اعتداء على حقوق الآخر.

وليست سوريا البلد الوحيد في العالم الذي يتكون مجتمعه من طوائف وإثنيات ومذاهب وأعراق، لكن الجامع بين أبناء المجتمع هو المواطنة واحترام نواظم القانون وسيادته، والاعتراف بحقوق الآخر. المفجع في سوريا الآن هو التمترس الطائفي والإثني والعرقي، ولعل الأحداث الأخيرة في صراع العشائر العربية السورية مع قوات «قسد» الكردية في منطقة شرق الفرات كانت خروجاً عن السياق التاريخي بين العرب والأكراد، إذ عاش الشعبان أكثر من ألف عام في مسار واحد ومجتمع متجانس دون أن يحدث بينهما شقاق يذكر. ومن المفارقات أن قوات «قسد» الكردية تضم أكثرية من الشباب العرب.

لقد حرصت القيادات الشعبية العربية على اعتبار القضية الكردية قضية سورية وطنية بامتياز، انسجاماً مع مسارات التاريخ واعترافاً بحقوق الكرد الوطنية وحقهم في التعبير عن ثقافاتهم وحضورهم ومشاركتهم السياسية التي لم تتوقف رغم كثير من المعاناة العامة. أما باقي الطوائف في سورية فقد شارك ممثلون لها في كل مسارات المطالب الشعبية على صعد سياسية واجتماعية، بينما خشي كثير منهم بوصفهم أقليات من صعود الأكثرية إلى الحكم، وتمترسوا خلف شعار حماية الأقليات الذي أطلقه ممثلو الدول الغربية.

انتهت مزاعم حماية الأقليات من طغيان مفترض من الأكثرية في انتفاضة السويداء السلمية، إذ جاءت أصداء مطالب الدروز في كل المحافظات السورية تعبيراً عن إرادة شعبية في التمسك بالشعار الذي ما زال قاعدة الثوابت، وقد صدح به الجميع: «الشعب السوري واحد». ورغم أن كل القرارات الدولية الصادرة حول الأزمة السورية، وكل البيانات الشعبية والمعارضة.. تؤكد جميعاً على وحدة التراب السوري وعلى وحدة الشعب، وكلها تنادي باعتبار المواطنة أساس أي عقد اجتماعي.. فإن ما يحدث في الساحة السورية ينذر بأخطار مستقبلية كارثية.

لقد أصبحت سوريا ساحة صراعات دولية كبرى وقودها السوريون، وبات شبح التقسيم يهدد سوريا بالخروج من الجغرافيا والتاريخ، فالشمال السوري بطرفيه الشرقي والغربي شبه مستقل عن سوريا المركزية، وهناك حضور أميركي متصاعد في شرق البلاد من التنف حتى الحدود التركية في الشمال، وهناك حضور روسي متين في الساحل وفي الداخل والأطراف، وهناك حضور لإيران، فضلاً عن حالة مضطربة في درعا، كما باتت السويداء مغلقة الآن وهناك من يروجون لإنشاء إدارة ذاتية مستقلة ما لم تتم تلبية المطالب الشعبية هناك. وهي مطالب شعبنا كله. إن ما يعانيه الشعب السوري من أوضاع معيشية وأحوال اقتصادية يجعل سوريا بنية هشة غير قادرة على التعافي قريباً.

العبء ثقيل جداً ولا نهاية معروفة له، ويتعين على الشعب السوري، المستبعد عن أي قرار دولي، أن يدافع عن وحدته ويرفض التشرذم والتقسيم.. ووسيلته الأهم هي استعادة الوئام وإنهاء حالات الفصام والخصام، والوقوف بوعي وطني بشكل متماسك ينهي الانتماءات الضيقة، مذهبية كانت أم طائفية أم عرقية، وأن يهيء نفسه لتحول تاريخي يعزز وحدته الوطنية.

*وزير الثقافة السوري السابق