لم تعد مأساة سوريا ما حلّ بها من دمار فقط، وما شهدته من قتلى وجرحى ومفقودين ومهجّرين.. فالمأساة الموازية هي هذا الصدع الجوفي الذي أحدث شروخاً وتمزقاً في عمق العلاقات بين أبناء الوطن. ولئن كان بوسع الحلول العسكرية والأمنية أن تفرض وقائع جديدة على الأرض، فإنها تعجز عن رأب الصدع المجتمعي الخطير الذي تجذّر في النفوس وبات مرضاً عسيراً على الشفاء.

ولابد من الاعتراف بأن هذا الداء ليس خاصاً بأمة من الأمم، بل هو مشترك عصبي غرائزي أُريقت بسببه سيول الدماء، واشتعلت بدوافعه حروب مدمرة، وغالباً ما تجعله السياسات محرِّضاً حين توقظه في الشعور الجماعي لمعرفتها بقابليته للاشتعال. والمفجع أن يتحول الشعور بالمظلومية التاريخية إلى عقيدة ذات قدسية، وأن تنبع منه أفكارٌ تعيد صياغتَه بقوالب عصرية لتمحو غبار التاريخ عنه وتعيد تصديرَه وتعبئتَه كما لو أنه منسجم حتى مع أفكار الحداثة، وأن مشروعيتَه أبدية ونهائية!

إن جميع البشر يتفقون نظرياً على أن الماء لا يجري في النهر مرتين، بمعنى أنك لا تستطيع الاستحمام بماء النهر أكثر من مرة واحدة، إلا إذا كنت تستحم في مستنقع راكد، وما أسوأ الحياة في مستنقع تتراكم فيه أوساخ التاريخ!

إن الانغلاق حول الذات وكراهية الآخر والتعصب للعرق أو الدين أو الطائفة أو الفريق الواحد، يناقض كل العقائد ذات المحتوى الإنساني، بل يقتل إنسانية الإنسان حين يقوده إلى ظلم الآخرين، وفي ثقافتنا العربية الإسلامية اعتراف بما قد يقع بين الناس من خلافات ربما تقود إلى حروب دامية، ويكون الحل هو إصلاح ما بين المتحاربين، فإن أخفق هذا الحل، وطغت وبغت طائفة على أخرى، فلابد من نصرة المظلوم على الفئة الظالمة حتى تصلح موقفها، وهكذا يكون الإصلاح في المقدمة وفي النهاية.

وتجنباً لأخطار هذا الصدع المتفاقم، يظهر مفهوم التسامح جبلاً شاهقاً لا يستطيع تسلقه إلا كبار النفوس، وثقافتنا تحض عليه: «وَمُرَادُ النُّفُوسِ أَصْغَرُ مِنْ أَنْ /// نَتَعَادَى فِيهِ وَأَنْ نَتَفَانَى». ولا يغيب عن المتنبي حاجة التسامح إلى إنهاء حالة الهوان والذل: «غَيْرَ أَنَّ الْفَتَى يُلَاقِي الْمَنَايَا كَالِحَاتٍ /// وَلَا يُلَاقِي الْهَوَانَا».

ومع التفاؤل بمساعي أمتنا العربية حين نهضت لإطفاء الحرائق في سوريا، وعلى الرغم من أن هذه المساعي لم تصل إلى مبتغاها، فما يمكن عمله الآن هو استعادة فتح بوابات الحوار على صعيد اجتماعي وثقافي ونخبوي، حين تخفق أو تضطرب الحوارات بين الحكومات والسياسات الرسمية.

فالمجتمع السوري الذي تمزقت عراه، كان بالأمس القريب لُحمةً واحدةً، لكنه تشرذم حين علا صوت الرصاص على أصوات العقل والحكمة، وتبدو الحاجة ماسة اليوم لمؤتمر سوري يدعى إليه الحكماء والعقلاء الذين هم خارج ساحات الصراع، فيكون مؤتمرهم فكرياً وثقافياً وإنسانياً منبراً للجميع، وصوت حكمة الوطن العميق. إنها مسؤولية الأمة العربية، بكل من في قلبها من تنوع.. ولتكن أصوات هؤلاء الحكماء والنخب الواعية من كل شرائح الوطن وطوائفه وأعراقه، صرخة حق هدفها إنقاذ الوطن عسى أن تجد استجابةً.

*وزير الثقافة السوري السابق