خلال سنتين ونيف جرت أربعة انقلاباتٍ عسكرية في دول الساحل بغرب أفريقيا، آخرها انقلاب الغابون بأيدي قادة الحرس الرئاسي قبل ثلاثة أيام، وفي تشاد تولى الابن الرئاسة بعد مقتل والده على أيدي المعارضة المسلحة! في كل انقلابٍ أو عقب حصوله يُقال على الفور إنه انهيارٌ للنفوذ الفرنسي في تلك الدولة.

إنما الجديد في انقلاب الغابون أنّ الصينيين وليس الفرنسيين فقط أظهروا حرصاً على حياة الرئيس علي بونغو الذي حكم البلاد بعد أبيه عمر بونغو (1967-2009)! البلاد ضخمة الساحة وشعبها صغير فقير رغم الثروة البترولية الكبيرة والثروات المعدنية الأخرى.

وبخلاف الدول الانقلابية الأُخرى، فإنّ الغابون ما كانت تشكو من التمردات الإرهابية. إنما شأنها شأن الدول الأُخرى حيث يجري إضعاف الجيش، وتصبح النخبة الحامية للنظام هي الحرس الجمهوري باعتباره القوة المأمونة، لأن الرئيس يبنيه بنفسه! وفي المثل العربي: من مأمنه يُؤتى الحِذر.  

  في دول الانقلابات يُنتخب الرئيس من الحزب الحاكم لمرةٍ أو مرتين، لكنه لا يلبث أن يهتم بالتجديد لنفسه عن طريق صناديق الاقتراع، ولا يسلّم المعارضون له بسلامة الانتخابات أو نزاهتها، لكنّ القوى السياسية المعترضة لا تستطيع التغيير وإنما يغيّر الجيش أو الحرس الجمهوري. أما الأسباب المعلنة للانقلاب فتكون الفساد أو مكافحة الإرهاب أو الأمرين معاً. لكنّ النظام إذا كان فاسداً فليس معنى ذلك أنّ حرس النخبة هذا أقلّ فساداً!    

    ودائماً يُظهر الانقلابيون سخطاً على بقايا الاستعمار الفرنسي، ويستطيعون إقناع جمهورٍ بالنزول إلى الشارع دعماً للانقلاب، وتشهيراً بالفرنسيين. والفيلم المتكرر مطالبة الفرنسيين بالانسحاب، ومصير دول غرب أفريقيا الباقية إلى السخط والمقاطعة والتهديد بالتدخل العسكري لإعادة الرئيس «المنتخب» إلى سُدّة الرئاسة. بيد أنّ جيوش الدول الأُخرى (غير المستقرة أيضاً) ذات إمكانيات ضعيفة باستثناء نيجيريا التي لا تستطيع وحدها التدخل. ويهدد الفرنسيون بالتدخل لحماية مصالحهم، لكن لا أحد يحبذ التدخل الأجنبي كما في زمن الاستعمار. وحتى الأميركيون المرتبكون أمام زيادة النفوذين الروسي والصيني ينصحون الفرنسيين بالهدوء، واختيار التفاوض وسيلةً لكي لا يسوءَ الوضع أكثر.  

 ما الحاجةُ إلى الانقلاب العسكري؟ ليست هناك حاجةٌ لذلك من أي وجه، فالفساد لن يضعُف ولن ينتهي، والإرهاب سيزداد، كما يتفاقم الفقر ويحلّ الجوع. فبعد عامٍ ونيف على الانقلاب بمالي تضاعفت المساحة التي يسيطر عليها الإرهابيون، وهم ليسوا عقائديين بالطبع وإن ادّعوا ذلك، لقد صاروا عصابات للجريمة المنظمة. اتسعت بؤَر الاضطراب في مالي من قبل، وجاء جنود الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، لكنهم (وعددهم 13 ألفاً) ينسحبون خلال ستة أشهر، فلا هُم أحلُّوا الاستقرار، ولاهم قضوا على الإرهاب الذي جاؤوا لمكافحته.

ولا يستطيع الجيش إحلال الاستقرار في غيابهم ومع ذلك طالبهم جازماً بالانسحاب!     كانت حكومات ما بعد الاستقلال قادرةً -بمساعدة الفرنسيين- على حماية الاستقرار وليس أكثر. إنما لو تأملنا ما يحصل في ليبيا والسودان لوجدنا أنّ الاستقرار نعمة، لأنّ البديل هو الفوضى أو الحروب الأهلية أو تعدد السلطات، وانقسام البلاد، مع بقاء الجيش وقيادته الثورية في جزء من العاصمة أو خارجها. ولو تأملنا الوضع في ليبيا والسودان لوجدنا العجب العجاب.

ففي طرابلس حكومة تدعمها تركيا والتنظيمات المسلَّحة، وفي بنغازي جيشٌ آخر وبرلمان وحكومة أُخرى! أما في السودان فيتصارع الجيش وقوات الدعم السريع للسيطرة على العاصمة والمدن الثلاث، في حين ينتشر مسلَّحون في أنحاء البلاد، ويحاولون فرض سيطرة فئوية وسط القتل والجوع والتهجير.     هذا هو المصير الذي قد ينتظر دول الانقلابات العسكرية: أفلم يكن بوسع الرؤساء المخلَّدين أو العسكريين المنقلبين توقُّع ذلك؟!

*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية