في ربيع عام 2023 أجرت مجلة «الإيكونوميست» حواراً مع السياسي الأميركي الشهير هنري كيسنجر، وذلك بمناسبة احتفاله بعيد ميلاده رقم (100). وصف كيسنجر عالم اليوم بأنه يشبه عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث لا يريد أحد أن يتنازل، وأن استمرار حالة عدم التنازل هذه، لاسيما بين الولايات المتحدة والصين تهدد مستقبل العالم، ذلك أن مصير الكوكب إنما يتوقف على مدى استعداد واشنطن وبكين للتعايش معاً، وأن إحداهما ليست خطراً استراتيجياً على الأخرى، وإذا ما وضعنا في الاعتبار التطور المذهل في حقل الذكاء الاصطناعي، فليس أمامهما سوى خمس أو عشر سنوات لإيجاد طريق للتعايش. أمّا سياسة «كل شيء أو لا شيء» فهي تهديد لمستقبل الإنسانية.

حظيت العلاقات الأميركية الصينية وفرص الحرب والسلام بالاهتمام الأكبر في حديث كيسنجر، لكن النصيحة التي انتهى إليها، وقدمها لقادة بلاده كانت لافتةً للانتباه، وجديرة بالتأمل، فقد دعا كيسنجر - الذي عمل قبل عقود وزيراً للخارجية ومستشاراً للأمن القومي - إلى تحديث الثقافة السياسية الأميركية، لكى تكون أكثر براجماتية.

يدرس طلاب العلوم السياسية في محاضراتهم الأولى أن العنوان العالمي للفلسفة البراجماتية، التي تقوم على المنفعة والمصلحة وليست الأيديولوجيا أو العقيدة.. هي الولايات المتحدة، وإذا ما طلب منك أحدهم رقم الهاتف للسياسة البراجماتية في العالم، فما عليك سوى أن تبدأ بالرقم (001) ثم تبحث عن أرقام البيت الأبيض أو وزارة الخارجية.

إن دعوة هنري كيسنجر لتحديث الثقافة للمزيد من البراجماتية الأميركية، إنما تعني الوصول بالبراجماتية إلى أقصاها، وإذا ما كانت البراجماتية الحالية المتخمة بالنفعية والمختلطة ببعض الثوابت غير صالحة، فإن «البراجماتية الجديدة» تعني المرونة اللانهائية في سبيل تحقيق الأهداف، حتى لو عصفت هذه المرونة بثوابت سابقة أو حالية.

في عام 2021 احتفل شخص آخر بعيد ميلاده رقم (100)، إنه الفيلسوف الفرنسي «إدجار موران» والذي أصدر كتاباً بعنوان «دروس قرن من الحياة» احتفاءً بمئويته. يدور المشروع الفكري للسيد موران حول الإحباط من الحداثة، وأن القرن العشرين قرن الحداثة العظيم.. لم يكن في الواقع سوى قرن الموت الكبير، حيث قتل أكثر من (100) مليون إنسان في حربيْن فقط، الحرب العالمية الأولى والثانية. وهكذا فإن قرن الازدهار كان قرن الدمار، وسنوات الحصاد كانت سنوات الهشيم.

ثم جاء القرن الحادي والعشرون بمزيد من التحديات، حيث التراجع السياسي والحضاري رغم التقدم الاقتصادي والتكنولوجي، وحيث الليبرالية المتطرفة التي قادت إلى إثراء الأثرياء وإفقار الفقراء، وتدمير المناخ.. وحيث «سيادة الربح» وتفاقم جنون التكنولوجيا الجديدة.. ويدور ذلك كله في إطار بحر من اللايقين. يتساءل إدجار موران وهو يستعد لنشر دراسة جديدة في عُمر (102) سنة: «إلى أين يسير العالم؟»، وفي عمل آخر يتساءل يائساً: «هل نسير نحو الهاوية؟».

بينما يدعو هنري كيسنجر إلى «براجماتية جديدة» يدعو إدجار موران إلى «أنسنة جديدة». لسنا في مجال مناظرة أو مواجهة بين السياسي والفيلسوف، فما يحتاجه العالم الآن.. هو أن يتوقف قليلاً، ويأخذ نفساً عميقاً.. ثم يبحث في إجابة ذلك السؤال الوجودي: وماذا بعد؟

* كاتب مصري