مضى زمنٌ كان فيه اليهودُ جزءاً من نسيج مجتمعات عربية عدة. في مصر، على سبيل المثال، كان لعائلاتٍ يهودية مثل سوارس وقطاوي وموصيري وشيكوريل وغيرها أدوار اقتصادية وسياسية واجتماعية وفنية مشهودة. أسسَّوا شركات كانت الأُولى من نوعها، كلٌ في مجالها، مثل شركة السكر في كوم امبو، وشركة الملح والصودا في القاهرة، وفتحوا متاجرَ كان بعضها الأكثر شهرةً في المنطقة. وكان بينهم أعضاء في البرلمان، وقضاة، ووزراء أيضاً. وكان منهم فنانون وفنانات ما زالوا معروفين مثل الموسيقار داود حسني، والمخرج توجو مزراحي، والمطربة ليلى مراد، وغيرهم.
وكذلك كان الحال في بلدان عربية أخرى مثل العراق والمغرب واليمن. وألَّف بعض يهود هذه البلدان كُتباً عن ذكرياتهم فيها. وآخرهم كافي شلايم الأستاذ في جامعة أوكسفورد، الذي أصدر قبل أسابيع كتاباً يتضمّن مذكراتِه تحت عنوان «ثلاثة عوالم.. مذكرات يهودي عربي»، عن دار «عالم واحد» في لندن. هذه العوالم الثلاثة هي عوالمه، عالَمه في العراق حيث وُلد ونشأ، وهو الأحب إلى قلبه حتى اليوم.. وعالَمه في إسرائيل التي هاجر إليها مع أسرته مضطرين لا مختارين.. وعالَمه في إنجلترا التي يعمل أستاذاً للتاريخ في أعرق جامعاتها.
يبدو الكتاب كما لو أنه رثاء لعالَمٍ أحبَّه أكثر من غيره، أو بالأحرى لزمنٍ ساده التعايش والتسامح في العراق، وفي منطقتنا بوجه عام. يَصف شلايم حياةَ عائلته في مجتمعٍ كانت هذه سمته، وكيف تعاملوا مع المسيحيين والمسلمين بمذاهبهم المتعددة قبل أن ينتشر التعصب والتطرف في المنطقة.
لم يكن ليهود العراق صلةٌ بمشروع إقامة دولة يهودية في فلسطين. لم يشغلهم هذا المشروع أو يثير اهتمامهم، ولم يتوقعوا بالتالي أن تؤدي تداعيات ترتبت عليه إلى رحيلهم مِن بلدٍ لم يكن لهم غيره. ويُوثِّق شلايم التغيرَ الذي حدث في الأجواء التي أحاطت يهودَ العراق بدءاً من عام 1941، وبلغ ذروته بين عامي 1948 و1951، وهي الفترة التي شهدت هجرتَهم الجماعية. ويوَّضح كيف خدم انفلات غضب بعض العراقيين بسبب ما حدث عام 1948 خِططَ الوكالة اليهودية لتهجير اليهود مِن العراق، وهو ما حدث مثله في بلدانٍ عربية أخرى. شعر كثير من اليهود في ذلك الوقت بعزلة لم يتعودوا على مثلها، وهم الذين اندمجوا في مجتمعهم إلى أقصى مدى. ويصف كيف أنهم غادروا العراقَ على مضض، وانتقلوا إلى بيئةٍ لم يعهدوها، إذ عوملوا بطريقةٍ أدنى من نظرائهم القادمين من أوروبا. ويستخدم شلايم عبارةً طريفةً، لكنها بالغة الدلالة على هذا المعنى: «غادروا العراق كيهود، ووصلوا إلى إسرائيل كعراقيين»! وكان هذا سبب سفره إلى إنجلترا عام 1961 عندما أُتيحت له فرصةٌ، حيث وجد عالَمَه الثالثَ.
مذكراتٌ مهمةٌ وبديعة في آن معاً. وفي ثناياها حنينٌ لا يخفى إلى عالمه الأول وتوقٌ إلى ما كان فيه من تعايش وتسامح بين أتباع الأديان والمذاهب المختلفة كلها.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية