إذا أردنا صياغة موجزة لمجمل التاريخ الإنساني، يمكننا القول بأنه الصراع بين العقل والقلب، العلم والروح، المنطق والوجدان.

على جانبي الصراع يتنافس العلماء والأدباء في مساحات شاسعة من جغرافيا العقل وجغرافيا النفس. في الحقبة الأولى للبشرية لم يكن للعلم مكان مهم، بل كانت العاطفة وحدها، وهي ليست العاطفة في مستواها المعتدل، بل العاطفة عند مستوى الغريزة، ولربما أمكننا وصف تلك الحقبة المبكرة من تاريخ البشر بأن «عصر الغريزة» وهو العصر الذي تطور لاحقاً إلى «عصر العاطفة».

لقد كان الانتقال من عصر الغريزة إلى عصر العاطفة انتقالاً كبيراً، ذلك أنه انتقال من «الضيق البيولوجي» إلى «الأفق النفسي»، والانتقال من التفكير حصرياً في الطعام والنوم والزواج من دون أى اكتراث بجميع الكائنات، إلى التفكير في الحب والصداقة، وفي الحوار والتعاون، والتمييز بين الحضور والفقدان، والخير والشر، والمروءة والجريمة.

ساد عصر العاطفة طويلاً حتى جاء فلاسفة مصر واليونان.. الذين بدأوا الحديث عن العقل إلى جانب العاطفة، ثم جاء العصر الحديث ليصبح العقل، والعقل وحده هو سيّد الحداثة، وسيّد العالم. في عصر الحداثة أو سطوة العقل، دخل العالم «خريف العاطفة»، وحلت الماكينات محل المشاعر، وطاقة البخار محل طاقة الحب والعطاء. ولقد بشّر فلاسفة الحداثة بأن العقل لديه الحلّ لكل شيء، وأن القادم هو الازدهار العالمي والرخاء الإنساني والسلام الدولي.. إنها نهاية التاريخ الرائعة التي ما كان يمكن الوصول إليها بدون سيادة العقل. لم تمكث تلك الآمال طويلاً، إذْ سرعان ما تبدّدت في الحروب الأوروبية الأوروبية، ثم الحروب الاستعمارية الأوروبية في قارات العالم أجمع، ثم جاء القرن العشرون ليشهد حربيْن عالميتيْن، وليكون قرن الموت الكبير، حيث أدت هاتان الحربان وحدهما إلى مقتل نحو (100) مليون إنسان. عاد الحلم الإنساني من جديد بعد هزيمة النازية والفاشية، ونجاح حركات التحرير الوطني ضد الاستعمار.

ولكن سرعان ما جاءت العولمة لتعصف بالعالم من جديد، وقد أدت السياسات «الريجانية» و«التاتشرية» وسطوة النخب النيوليبرالية.. إلى إزاحة القلب من العالم، فلا مجال لعاطفة تجاه فقير، أو تعاطف تجاه محتاج أو مريض، أو مشاعر تجاه أي ضعيف أو مأزوم. إنها الحقبة المعاكسة تماماً لحقبة الغريزة، ففي «عصر الغريزة» عاش العالم عاطفة بدائية حمقاء لا عقل فيها ولا مبادئ، وفي «عصر العولمة» يعيش الإنسان عقلانية تجاريّة ربحيّة جافة.. خالية من القلب والمشاعر. لم تعد العولمة هي عصر العقل إذن، بل هي الجزء الثاني من عصر الغريزة، حيث الهدف ليس التحضّر أو الرقي أو العاطفة الإنسانية، أو تعزيز المسؤولية تجاه بني البشر.. بل الهدف هو تدمير كل شيء، بما في ذلك الطبيعة والمناخ، الهواء والشجر، البشر والحجر.

من السلاح النووي إلى الذكاء الاصطناعي.. نشأ تطور خطّي في اتجاه حافة الهاوية. لقد تم إبطاء مسار التطور الأخلاقي للبشرية، وتجميد كل الميراث الحضاري نحو الإخاء والرخاء. بدأَ الإنسان بدائياً وعاد بدائياً، بدأ بلا عقل وعاد بلا قلب. تحتاج الإنسانية المعاصرة إلى استعادة ذلك التوازن الذهبي بين الروح والمادة، العاطفة والحداثة، الحب والربح.

*كاتب مصري