في بريطانيا، يتزايد إدراك أن تصويت البلاد على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وهي لحظة حاسمة في الصعود الدولي للشعبوية الرجعية، كان خطأ فادحاً. وتماماً كما توقع المنتقدون، أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت) إلى التضخم ونقص العمالة وتعطل الأعمال الاقتصادية والسفر. ونشأن مشكلات في سلسلة التوريد عرضت مستقبل صناعة السيارات البريطانية للخطر. وحوّل بريكسيت، في كثير من الحالات، السفر بين أوروبا والمملكة المتحدة إلى محنة عقابية، كما كابدت هذا في الآونة الأخيرة، حيث أمضيت ساعات في طابور فوضوي لمراقبة جوازات السفر عند ركوب القطار من باريس إلى لندن.

ويجد الموسيقيون البريطانيون صعوبة في القيام بجولة في أوروبا بسبب الكلفة والروتين المرتبط بنقل الأشخاص والمعدات عبر الحدود. ووفقاً لمكتب المملكة المتحدة للميزانية والمسؤولية، أدت مغادرة الاتحاد الأوروبي إلى تقليص أربعة بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا.

وقال رئيس مكتب الميزانية العمومية إن الضرر الذي لحق بالاقتصاد البريطاني له نفس «حجم» الضرر الناتج عن جائحة كوفيد. وكل هذا الألم والمتاعب خلق أغلبية مناهضة لبريكسيت في بريطانيا. وأظهر استطلاع أجرته منظمة يوجوف في الأيام القليلة الماضية أن 57 بالمئة من البريطانيين قالوا إن البلاد كانت مخطئة في الموافقة على بريكسيت، وأن أغلبية من البريطانيين يريدون العودة إلى التكتل.

وحتى نايجل فراج، الزعيم السابق لحزب «استقلال المملكة المتحدة» اليميني المتطرف الذي يعرف أحياناً باسم «السيد. بريكسيت»، قال لهيئة الإذاعة البريطانية بي.بي.سي في مايو «لقد فشل بريكسيت». وكانت هذه الفوضى، يمكن استشرافها ومتوقعة بالطبع.

وهذا هو سبب دهشتي، أثناء زيارتي للمملكة المتحدة هذا الصيف، فهناك تحريم ضد مناقشة مدى سوء بريكسيت، حتى بين كثيرين ممن صوتوا ضده. وقبل سبع سنوات، كان بريكسيت نذيراً مبكراً بالثورة المناهضة للكوزموبوليتية التي رفعت دونالد ترامب إلى السلطة. حتى أن ترامب استعار لنفسه لقب «السيد بريكست». وكلا المشروعين - طلاق بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وعهد ترامب في الولايات المتحدة - تحول إلى كارثة.

وكلاهما ترك البلدين في حالة إرهاق. لكن أميركا لا تستطيع التوقف عن الحديث عن ترامب، بينما نجد كثيرين في المملكة المتحدة لا يستطيعون تقريباً التفكير في بريكسيت. وأخبرني «توبياس إلوود»، النائب عن حزب «المحافظين» في البرلمان الإنجليزي الذي دعا زملاءه للاعتراف بأن بريكسيت كان خطأ، إن الأمر مضنٍ جداً لأن «الناس أنفقوا كثيراً من الوقت والألم والعذاب في هذا الأمر. وأضاف أنه مثل «الجرح» الذي يريد الناس تجنبه.

ووصف رئيس بلدية لندن، «صادق خان»، أحد قادة حزب «العمال» القلائل الحريصين على مناقشة عواقب مغادرة الاتحاد الأوروبي، إن الأمر يشبه التعهد بالصمت. وعبر عن إحباطه «لأن لا أحد يتحدث عن ذلك.» وجزء من السبب الذي يجعل لا أحد يتحدث عن عواقب بريكسيت يكمن في التركيبة السكانية لحزب «العمال» البريطاني. وما بين ربع وثلث ناخبي حزب «العمال» أيدوا بريكسيت، ويتركز هؤلاء الناخبون في ما يسمى بالجدار الأحمر، أي مناطق الطبقة العاملة في ميدلاندز وشمال إنجلترا التي كانت تدعم حزب «العمال» بقوة، لكنها مالت نحو «المحافظين» في انتخابات 2019.

ويؤكد جوشوا سايمونز، مدير مؤسسة فكرية مقربة من قيادة حزب العمال أن «الناخبين لا يريدون الحديث عن بريكسيت». ويساهم الإنهاك التام أيضاً في جعل الحديث عن بريكسيت غير مرحب به. فبين التصويت على بريكسيت عام 2016 والاتفاق النهائي في عام 2020، استهلكت القضية السياسة البريطانية، ويريد كثيرون من الناس المضي قدماً إلى الأمام. ويقول سايمونز إن هناك أيضاً عاملاً ثالثاً يتمثل في الشعور بوجوب احترام نتائج الاستفتاء الديمقراطي. وقال سايمونز:«في النهاية، في الديمقراطية، في بعض الأحيان تقومون جميعاً بأشياء مجنونة معاً. والأهم من كون الشيء المجنون جيداً أو سيئاً هو أنكم تفعلون ذلك معاً».

وكشخص من بلد أكثر استقطاباً، وجدت هذه الفكرة غريبة إلى حد ما. فإذا كان الناخبون المؤيدون لترامب قد فرضوا مثل هذه السياسة المكلفة والتي لا تتمتع بتأييد شعبي في نهاية المطاف على البلاد، فأعتقد أنه سيكون هناك اندفاع بين «الديمقراطيين» لدحر زخمها. لكن في المملكة المتحدة، الاستفتاءات وهي نادرة ويتم إجراؤها فقط لمعالجة القضايا الرئيسية، لها جاذبية سياسية يصعب على شخص من الخارج مثلي فهمها.

فقد لفت «خان» انتباهي إلى أنه «يجب احترام الاستفتاء. وما لا يمكن حدوثه في نهاية المطاف هو استفتاء بعد استفتاء بعد استفتاء. لأن هذا لا يحترم الناخبين». لكن «خان» جادل بأنه من دون مواجهة الضرر الذي تسبب فيه «بريكسيت»، لا يمكن للبلد المضي قدماً.

ولن تعود بريطانيا، في المدى القريب على الأقل، إلى الاتحاد الأوروبي. لكن كلاً من «خان» و«إلوود» يجادل بأنه مازال بإمكان البلاد إقامة علاقات تجارة وهجرة أوثق مما هو عليه الأمر الآن، وربما تعود في النهاية إلى السوق الأوروبية الموحدة. وأحد الجوانب المضيئة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو أنه يقدم قصة تحذيرية لبقية أوروبا.

وبعد أن صوتت بريطانيا لمغادرة الاتحاد الأوروبي في عام 2016، كان هناك خوف، بين بعض المهتمين بالمشروع الأوروبي، من أن تكون فرنسا أو إيطاليا هي التالية. لكن كما ذكرت صحيفة جارديان، اعتباراً من يناير، انخفض الدعم لمغادرة الاتحاد الأوروبي في كل دولة عضو تتوفر عنها بيانات.

وبينما تتحرك الحكومات في جميع أنحاء القارة نحو اليمين، يتحرك الاتحاد الأوروبي نفسه في اتجاه أكثر تحفظاً، لكنه لا يتفكك. وقال «خان»: «لا أعتقد أنك ستشهد خروج دول أوروبية أخرى من الاتحاد الأوروبي إذا لم يكن هناك سبب آخر سوى أنها شاهدت التأثير علينا». لكن هناك درس أكبر تعلمته فيما يبدو معظم الدول الغربية. وهو أن المشروعات القومية اليمينية تبدأ بتبجح صاخب وتنتهي عادة في صمت.

*كاتبة أميركية.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»