لم يكن أي شيء على ما يرام حتى جاء سقراط.. هكذا يمكننا وصف الحالة الفكرية في اليونان قبل سطوع نجم الفيلسوف الكبير.

كان السوفسطائيون قد أفسدوا كل شيء، فقد ألغوا المعايير والمقاييس، فالدين كما يراه كل فرد، والأخلاق كما يراها كل إنسان، والفضيلة والرذيلة والخير والشر.. أمور لا تعريف لها، وإنما يقوم كل شخص بتعريف الخير والشر كما يشاء. كان فلاسفة ما قبل سقراط غارقين بدورهم في مزيج من السوفسطائية والعدميّة، وكان الفيلسوف «بارمينيوس» يرى أن الحواس خائنة، وما نراه ليس موجوداً بالضرورة.. «لا شيء يولد من لا شيء، فكلّ ما هو موجود قد وُجد منذ الأزل، وما ليس موجوداً لن يوجد إلى الأبد».

جاء «سقراط» ليقطع ذلك الطريق الفلسفي الدائري، وليمهد طريقاً آخر للمعرفة، وإطاراً جديداً للمنطق. لم يترك سقراط مؤلفات كما ترك أفلاطون وأرسطو، وكل ما نعرفه عن فلسفة سقراط جاء من «الحوارات السقراطيّة» التي كتبها «أفلاطون» و«زينوفون». وباستثناء الفلسفة، فإن كل ما يتعلق بحياته هو موضع جدل واختلاف. هل كان عاملاً أم عاطلاً؟ هل عمل مدرساً أم كان يعطي دروسه مجاناً بلا مقابل؟

هل عملَ في نحت التماثيل من الصخور، كما كان يعمل والده.. وهل قام بصنع تماثيل شهيرة لها مكانتها في فن النحت؟ هل كان أداؤه كجندي في الجيش شجاعاً حقاً؟.. لا توجد إجابة قاطعة على أي سؤال. جاءت فلسفة سقراط صادمة للحالة الفكرية السائدة، كان يوخز أثينا بإبرٍ فلسفية عنيفة ومتكررة، أو حسب وصف أفلاطون.. كان سقراط يشبه «ذبابة الخيل» التي تلدغ الخيل ليقومَ بفعلٍ ما، وهكذا كان سقراط يلدغ العقل الأثيني ليقوم بعملٍ ما.

لقي سقراط احتراماً كبيراً لدى تلاميذه، لكن النخبة الأثينية لم تكن كذلك، فتمّ اتهامه بإفساد الشباب، وتدمير المعتقدات، وحُكم عليه بالإعدام سُمّاً. فبعد شهر من المعاناة في السجن، تم إعطاؤه «عصير الشوكران» وهو عصير عالي السميّة. تجرع سقراط السم ومات، ولكنه عاش قروناً طوال.. فيلسوفاً، ومنطقياً، وتربوياً.. من الوزن الثقيل. قام «ستيف جوبز» مؤسس شركة آبل وأحد كبار نجوم التكنولوجيا في العالم في القرن الحادي والعشرين.. بالتعبير عن مكانة سقراط لدى المعاصرين بقوله: «أنا مستعد للتنازل عن جميع خبراتي التكنولوجية.. مقابل قضاء أمسية فلسفية مع سقراط».

في كتابه «سقراط واقِعاً في الحب»، يروي أستاذ أكسفورد «أرماند دانجور» جوانب من حياته الخاصة، وقصة تأثير محبوبته «أسبازيا» التي رفضت الزواج منه، لكنها كانت ملهمته إلى طريق الفلسفة، وقصة زوجته التي ربما أنه قد أصبح فيلسوفاً بفضل عِنادها ومشاكساتها. من المثير أن سقراط الذي عاش قبل المسيح بمئات السنين، تضع بعض الكنائس تماثيله داخلها، إذ تراه فيلسوف توحيد ضد آلهة الأوليمب المتعددة.

وترى بعض الديانات أن «سقراط كان نبياً»، فقد أشار للإله بصيغة المفرد، ورفض هيكل الآلهة الإغريقي، وتحدث عن مهبط الوحي، وقال إنه يجب على الناس أن يدرسوا الفضيلة كما يدرسون العلوم. رحل سقراط قبل أكثر من 2400 عام، ولكن رؤيته في تعليم الفضيلة تبدو ضرورية اليوم أكثر من أي وقت مضى. إذا كان من مادة أساسية يجب أن تصبح الأوْلى بالتدريس في عالمنا المعاصر، فهي «مادة الفضيلة».

*كاتب مصري