القراءة هنا ليست لحدث نبحث عن إجابات لأسئلة حوله، مختبئة خلف معطياته أو مرهونة بنتائج مفاجئة لم تكن متوقعة، بل على العكس من ذلك تماماً، فالأحداث الجارية اليوم في فرنسا تمثل انعكاساً متوقعاً لسنوات من السياسات الحضرية حيال الضواحي وسكانها الذين يغلب عليهم المهاجرون.

فبعد أن أنهت فرنسا استعمارَها للجزائر وغيرِها من الدول المغاربية والأفريقية تحولت إلى دولة مهجر لكثير من فقراء تلك البلدان، ليس فقط لأنهم يتحدثون اللغة الفرنسية، ولكن أيضاً لأنهم حسبوا أنه مرحَّبٌ بهم في دولة عاشت طويلاً على أراضي أوطانهم. لكن هذه الفئة التي أصبحت تعد بالملايين لم تجد حلمَها المنشود، ولم تشعر بالتساوي في الفرص، خاصة في التعليم والعمل، مع باقي مواطني الجمهورية الفرنسية، وبات أغلبها يعاني الفقر والبطالة أو يمارس أعمالاً يدوية في منشآت فقيرة.

وعلى الرغم من ميلاد جيلين أو ثلاثة أجيال من أولئك المهاجرين المغربيين والأفارقة على أرض فرنسا، وكونهم من الناحية القانونية مواطنون فرنسيون كاملو الأهلية، فإن بعضهم طالما اشتكى من أنهم يعيشون في أجواء من الكراهية والتمييز بحقهم! لكن ألم يكن على الساسة معرفة حقيقة هذه الأوضاع ومحاولة إيجاد علاج لها منعاً للانفجار؟

في غياب ذلك العلاج، كان من السهل جداً أن نتوقع صعودَ العنف والجريمة والاضطراب، وحتى لو سيطرت قوات الأمن الفرنسية على الأوضاع وأنهت الاحتجاجات العنيفة، فما الضامن بأن هذه الأعمال المخلة بالأمن لن تتكرر بعد حين؟إنهم ليسوا أقلية أو متجنسين، كما يحسب البعض، بل مواطنون بحكم القانون.. ومن ثم فمواطنتهم تحميهم من أي أوضاع مزرية أو حياة لا كرامة فيها. قادة اليمين المتطرف يطالبون بإعادة هؤلاء المواطنين إلى بلدانهم الأم، رغم أن آباءهم وأجدادهم ولدوا في فرنسا وأصبحوا مواطنين فرنسيين بكامل حقوقهم وواجباتهم منذ عقود عديدة.

وبالتأكيد فإن حلول مثل هذه الاضطرابات والأزمات مطروحة ومعلومة لدى الحكومات، لكن دائماً الحلول الجذرية دائما تكون صعبة، وعدم الأخذ بها تكون له انعكاسات يدفع ثمنها الوطن ككل.

وليست فرنسا وحدها مَن يواجه أزمة من هذا النوع، وإن كانت أزمتها الأكثر حدة ووضوحاً في الوقت الحالي.. فحادثة مقتل الطفل مؤثرة بلا شك، لكنها لا تستدعي كل هذه التداعيات لو لم توجد نارٌ تحت الرماد الخامد. وماذا عن المواطنة؟ وهل تقاس بمعيار آخر غير القانون؟ سؤال شائك، إجابته النهائية أن الاعتراف هو أهم عنصر في العلاقات الإنسانية والاعتبارات القانونية، وكذلك الاحترام الذي هو المحك الرئيسي في الفعل الأخلاقي أولاً وأخيراً.

*كاتبة إماراتية