في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «لماذا الحرب؟»، يستعرض الفيلسوفُ الفرنسي فردريك غروس تطورَ أسلوب ومسلك الحروب في العصور الحاضرة، منطلِقاً من الحرب الأوكرانية الحالية التي أعادت المواجهةَ المسلحةَ إلى القارة الأوروبية.

ووفق غروس فقد انتقل العالَمُ من الحروب الثنائية التي عرفها القرنُ العشرون في نمط الحرب الباردة وما اتصل بها من نزاعات مسلحة كثيرة إلى حروب الإرهاب التي تدار وفق منطق التدخل والأمن، واليوم نعيش نمطاً جديداً من الحروب هي الحروب الفوضوية العدمية التي هي ضرب من العنف الشامل والعدمي، الغرض منها ليس بناءَ السلم بل مضاعفةَ المخاطر وتكاليف المواجهة.

لم تكن الحرب الأوكرانية بالنسبة لغروس عودةً إلى منطق المواجهة المسلحة التقليدية، ذلك أن الحرب خرجت من الأفق المعياري والقانوني للعلاقات الدولية المبنية على السلم ومنع الاعتداء. ولذا نلاحظ أن الرئيس الروسي بوتين استخدم مقولةَ «العمليات الخاصة» بدلا من مقولة الحرب، واعتبر أن التدخل العسكري في أوكرانيا يستجيب لمنطق الدفاع عن النفس ورد العدوان الخارجي.

ما يميز الحروبَ الحاليةَ هو انتفاء الثنائيتين المحوريتين في الحروب التقليدية، وهما الفصل بين المحاربين والمسالمين، وربط الحرب بالأهداف السياسية والغايات السلمية. الحروبُ الراهنةُ مسرحُها ليس الميدان العسكري بل داخل المدن، ومن هنا نهاية الفصل بين المقاتلين والمدنيين العُزَّل؛ فأغلب ضحايا المعارك اليوم هم من المدنيين المسالمين وليسوا من الجنود المسلحين، وتقنياتُ التدمير تستهدف المواقع والمنشآت المدنية من جسور وأسواق ومولدات كهربائية وليس فقط المعسكرات والثكنات.

ومن هنا يشكّل المجتمعُ بمفهومه الواسع مرتكزَ الحروب الحالية، وبقدر ثباته ومقاومته تُكسب المواجهةُ ويقوض التفوق العسكري.منذ حرب العراق عام 2003 ظهرت عودةٌ ملموسةٌ إلى مفهوم «الحرب العادلة» الذي يرجع إلى التقليد الوسيط، وهو يعني شرعيةَ معاقبة المعتدي لاستخلاص حقوق مسلوبة، أو تسليط جزاء مستحق على جرم أخلاقي.

ومن المعروف أن هذا المفهوم قد أُلغي كلياً في القانون الدولي الحديث الذي يرتكز على فكرتي احترام سيادة الدولة وحصر شرعية الحرب بحق الدفاع عن النفس المؤطَّر بالنظم المؤسسية الدولية. وبطبيعة الأمر لم تُلغِ هذه التقييداتُ الحروبَ، لكنها ضيَّقت مجالَها وحصرت إمكاناتِها العمليةَ في سياقات التوافق الدولي، بيد أن ما نشهده حالياً هو العودةُ الملتبسةُ لمنطق الحرب العادلة الخارجة على الضوابط القانونية والمعيارية للعلاقات الدولية.

كان الفيلسوف الألماني كارل شميت في خمسينيات القرن الماضي قد نبَّه إلى أن معضلةَ مفهوم الحرب العادلة هي أنها لا بد أن تلغي الأبعادَ القانونيةَ الإجرائيةَ في المواجهة المسلحة، بتحويل الصراع إلى موضوع أخلاقي أو ديني، ومن ثم ينتفي في المطلق المشكلُ الأخلاقيُّ الذي يطرحه اللجوءُ إلى العنف في الصراعات والنزاعات الإنسانية. والسؤالُ المطروحُ حالياً هو: كيف تقترن العودة الإشكالية لمفهوم الحرب العادلة مع انحسار مفهوم الحرب ذاته، بمعنى خروجها من دائرة المعنى والقيم في الفكر المعاصر؟

مع قدرات الدمار الشامل التي أنتجتها التقنيات العسكرية الحديثة، تَغير جوهرياً مفهومُ الحرب، إذ أصبحت تعني خطرَ إبادة النوع البشري والردع المتبادل المانع للمواجهة، ومن ثم غدت الحرب تجربة مستحيلة نظرياً، وعوضتها أنماط جديدة من العنف المحدود الذي يتخذ غالباً صيغةَ التدخل الأمني والرقابة الشاملة.

وطالما أن الحرب أصبحت مستحيلة، صار تسويغُها الشرعي صعباً، ومن ثم الخروج عن المدونة القانونية الحديثة إلى السياق اللاهوتي الوسيط للحروب العادلة. وفي كتابه «الحرب الأهلية»، يتتبع الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن جذورَ العقل السياسي الحديث التي يرجعها إلى تجربة الحرب الأهلية (stasis باليونانية).

فإذا كانت هذه التجربة في المدن الإغريقية تكرّس خطَ الانتقال من نظام الأسرة إلى الحالة السياسية المنظَّمة القائمة على المواطنة، فإنها في الفكر القانوني والسياسي الحديث هي الأفق الأصلي للمدنية وللدولة التعاقدية الخارجة عن حالة الطبيعة التي هي «حرب الكل ضد الكل» حسب عبارة هوبز الشهيرة.

لا يبدو أن العقل السياسي المعاصر مهيأ لاستيعاب تجربة الحرب التي يختزلها في خانة المخالفة القانونية والاستثناء العرضي، رغم أن العصر الحاضر كان أكثر عصور التاريخ دمويةً وقسوةً وتدميراً. والمفارقةُ البادية للعيان هي انتشار الحروب على نطاق واسع غير مسبوق دولياً (وإن كانت الحرب الأوكرانية الحالية تنتهك حركة المجال الأوربي المنزه وحده عن المواجهة المسلحة!)، في الوقت الذي صارت فيه الحربُ خارج أفق المعنى والدلالة.

*أكاديمي موريتاني