منذ أن بزغ فجرُ الإسلام وانتشر نورُه في أرجاء المنطقة العربية والعالَم وهو ينادي بالسلام والتعايش وقبول الآخر، ويتعامل مع الديانات الأخرى على أنها كتب سماوية منزَّلة، وأتباعها بشر وإخوة في الإنسانية وشركاء في المصالح والعلاقات، بغض النظر عن مسمى الدين وعنوان الطائفة ونوع القومية وشعار المذهب.

وقد ازدهرت المنطقة العربية في فترات خلت فيها معظم مناطق العالَم من الرخاء والاستقرار والنمو والأمن والأمان، ثم ازدهرت مجدداً في فترة ما بعد اكتشاف النفط فيها، حيث تطورت البلدان الخليجية بشكل خاص، واستطاعت تحقيق البناء والنهضة والنمو، وكذلك بعض الدول العربية الأخرى التي سبقتها إلى الاستقلال والتأسيس، خاصة بعد معاهدة سايسبيكو عام 1916 وما تبعها من تقسيم للمنطقة إلى دول وأقاليم.

لقد سجلت الدول العربية ازدهاراً في مجالات العلم والمعرفة والصناعة والزراعة، وحققت الاكتفاء الذاتي في العديد من المجالات، لما تملكه من طاقات ورؤى وموارد طبيعية وبشرية.. بل ساهمت بعض الدول العربية وتساهم في النهوض بكثير من الدول العربية الأخرى.

وكانت الشعوب العربية منسجمة ومتناغمة في داخلها ومع بعضها بعضاً على الدوام، دون أي فوارق طبقية أو ثنية أو مناطقية، مندمجةً في اللغة والعادات والتقاليد والدين.. يتنافس فيها المتنافسون على النجاح في ما يخدم البلاد ويفيد العباد.

لكن منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، هبّت رياح قادمة من الشرق، وظهرت نزعات مغرضة ونعرات طائفية مقيتة، غريبة وغير مستساغة، عملت على إفشاء الطائفية وتأجيج المذهبية، لإضعاف الهويات الوطنية وتبديد الانتماء القومي، وذلك من خلال التغلغل والتوغل في عقول بعض المجتمعات واستدراجها بوساطة أفكار وأنشطة تروِّج لبدع لم تعرفها الدول العربية ولم تؤمن بها من قبل.

كان أفراد المجتمعات العربية يتعلمون ويعملون وينتجون ويصنعون ويزرعون في مكان واحد، دون أن يعرف أحدُهم زميلَه أو شريكه في العمل إلى أي طائفة ينتمي، ولا صديقه من أي مذهب يكون.. فالدين لله والوطن للجميع، وكلهم يعملون في بوتقة واحدة، يجمعهم حب الوطن والوفاء للأرض.

ولذا فقد ازدهرت البلدان في تلك المرحلة حين طغت الروح الوطنية والقومية، وكان الانتماء الحقيقي للوطن والولاء الوحيد لقيادته التي تعمل لمصلحة المواطن، ولا معيار إلا معيار الكفاءة والمتميز.

ولم يسلم مجال الخطاب الديني، ولا حتى حقل الإنتاج الثقافي والفني، من وجود أصوات طائفية تريد إشاعة الفرقة والعصبية وإثارة النعرات الطائفية وتعميقها، وخلق شرخ في الجسد الواحد من خلال تسعير الكراهية، وتأجيج البغضاء. وهناك من يقف مع هذه الأصوات ويؤيدها، مما يشكل دليلاً واضحاً على الحالة التي وصل إليها العالم العربي جراء الأجندات الطائفية التي وضعت كثيراً من بلدانه على مفترق طرق لافتقادها القدرةَ على تجاوز الأوضاع المرَضية التي ابتُليت بها.

لقد أصبح الأخُ يكره أخاه، والجارُ يشتم جارَه، والصديقُ يتخلى عن صديقه.. بسبب هذه الأصوات النشاز التي فتكت بروح الألفة والمحبة والإخاء، وقسَّمت العائلةَ الواحدةَ، رغبةً في أن يتآكل المجتمع من الداخل، ويتمزق ويتناحر.. وهذه أخطر الوسائل لإضعاف الأوطان وتهديدها وجودياً!

*كاتب سعودي