في الصيف الماضي كان خبر اتفاقية التعاون والشراكة الإقليمية بين دولة الإمارات والأردن ومصر، والتي توسعت ولا تزال قابلة للتوسع لتشمل دولاً جديدة في الإقليم. الخبر كبير وضخم، لأنه يعكس التحولات الجذرية في إقليم الشرق الأوسط وشرق المتوسط، تحولات في بنية التفكير الاستراتيجي ومنظومة العلاقات التي استدارت لتتواءم مع عالم جديد نعيشه. واليوم، هناك خبر لا يقل ضخامة، ويبدو أنه سيكرس نوعيةَ الأخبار التي سيتلقاها المواطن العربي قريباً، وهي مختلفة نوعياً عما اعتاد على تلقيه طوال مراحل سابقة، وأعني هنا زيارةَ الدولة التي قام بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة إلى سلطنة عمان ولقاءه بأخيه صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق.
الزيارة، كما أخبارها التفصيلية، تجاوزت العبارة العادية المتكررة منذ عقود في نشرات الأخبار ومفادها «وتبادل الجانبان سبل التعاون المشترك والعلاقات الأخوية»، ففي تفاصيل الزيارة التي تمت تغطيتها إعلامياً على نحو واسع، هناك تحول هائل في تفكير المنطقة تقوده الإمارات بلا أدنى شك.
فلندقق معاً في الزيارة التي تجاوزت التشريفات الواجبة إلى برنامج عمل مكثف وهائل المحتوى. ما استطعت رصده من اتفاقيات ومذكرات تفاهم كان بحدود العشرة اتفاقيات، كلها عملية وفيها تفاصيل وخارطة طريق واضحة وأرقام مدروسة وعلى مستويات اقتصادية وبنيوية مختلفة، لا إنشاء فيها ولا بلاغة في النصوص، لكن بلاغتها الحقيقية في محتواها الذي يثير الدهشةَ والإعجاب بهذه الريادة الإقليمية التي تقودها الإمارات. وقد شملت اتفاقيات التعاون مجالات متعددة في الثقافة والإعلام والسكك الحديدية والتعليم والبحث العلمي والثروات الزراعية وأسواق المال.
هناك عملية بناء ضخمة وحقيقية تتجاوز الحدود وتحاكي الواقع، ضِمنها بناء الإنسان في اتفاقيات التعاون التعليمي والشبابي والثقافي ركزت على أسس التنمية البشرية في إطار منهجية واضحة وشديدة الحيوية، وبناء البنية التحتية المشتركة في الاقتصاد وقطاعي اللوجستيات والطاقة، كما الإدارة الاستثمارية الرشيدة للمال والأعمال ضمن مشاريع تضمن المصلحة المشتركة بأوسع حدودها.
واللافت في كل الاتفاقيات، وكلها مهمة وحيوية، كان اتفاق النقل الذي حظي بتفاصيل مهمة، خصوصاً مشروع سكة الحديد، وهو مشروع لوجستي ضخم يرسم خريطة تنموية للمنطقة، إذ يعد قابلاً للتوسع في كل الاتجاهات ومع كل الدول المجاورة، مما يجعل الشرق الأوسط نواةً لتجمّع إقليمي قادر على أن يكون محور العالَم كله.
الاتفاقيات ومذكرات التفاهم الموقعة خلال هذه الزيارة انطلقت من رؤى تنموية كانت، كما هو واضح في تفاصيل المشاريع التي نشرتها «الاتحاد» وباقي وسائل الإعلام الإماراتية والعمانية، حصيلة عصف ذهني بالغ الحكمة والحصافة من كل الأزمات التي يتعرض لها العالم بعد جائحتي «الوباء الكوروني» والأزمة الأوكرانية.
لنقل بصراحة هنا إن دولة الإمارات، وبدون ضجيج ولا استعراضات إعلامية، بل بثقة المتعلم المتمكن صاحب الخبرة السياسية المكثفة، استطاعت أن تكون صاحبة الريادة في الإقليم بمشاريع تتوسع يوماً بعد آخر، تخدم الشرق الأوسط كلَّه، وتعمل على تحويله من سوق استهلاكي تقليدي إلى مصنع إنتاج إقليمي في التكنولوجيا والمعرفة والطاقة والأمن الغذائي. تلك هي الرؤية الإنسانية الحقيقية التي ستبقى.


*كاتب أردني مقيم في بلجيكا