تظهر الانقسامات بين أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) حول كيفية تعزيز الانتشار العسكري في أوروبا الشرقية بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، في غمرة خلافات حول مدى الخطر الذي تمثله موسكو على أراضي الحلف بعد تعثر جهود الكرملين في ساحة المعركة. ويؤكد الجدل التقييمات المختلفة للدروس المستفادة مما يقرب من ثلاثة أشهر من الحرب في أوكرانيا. وتطالب دول البلطيق وبولندا بتواجد عسكري موسع بشكل كبير على أراضيها وقدرات جديدة، مثل الدفاع المضاد للطائرات، قد تجعل غزوها أصعب على روسيا. لكن أطرافا سياسية أخرى- مثل فرنسا وإيطاليا- أعربوا عن شكوكهم في أن تشكل القوات الروسية تهديدا لأراضي «الناتو» في أي وقت قريب. 
ويتعين اتخاذ قرار مبدئي بحلول نهاية يونيو حين يجتمع قادة الناتو في قمة مدريد. وفي ذاك الاجتماع، يتوقع أن يوافق القادة مبدئيا أيضا على طلبات عضوية فنلندا والسويد، على افتراض تراجع تركيا عن اعتراضاتها. ويؤدي التوسع في حد ذاته إلى زيادة القدرة العسكرية للناتو بشكل كبير في الجناح الشرقي من الحلف. وجاء في اقتراح سري مشترك من دول البلطيق- ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا- حصلت عليه واشنطن بوست «لا يمكن استبعاد عدوان عسكري مباشر من روسيا على حلفاء الناتو». واقترحت الوثيقة تكليف وحدة قوامها نحو 20 ألف جندي بمهمة الوصول السريع إلى كل دولة تتعرض لتهديد. 
وتتوخى الدول الأخرى مزيدا من الحذر تجاه الالتزام بتعهدات جديدة أقوى في أوروبا الشرقية، لأنها تخشى أن تؤدي الموافقة على عمليات نشر كبيرة إلى كلفة كبيرة وتحول القوات عن مجالات اهتمام أخرى. ونبه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في تصريح للصحفيين في الأيام القليلة الماضية، إلى أنه يجب ألا ننسى احتمال إحلال السلام في المستقبل. وحذر من اتخاذ إجراءات قد تجعل العمل مع روسيا في المستقبل مستحيلا. لكن زعماء أوروبا الشرقية يعتقدون أن اختيار عدم الرد سيكون خطأ استراتيجيا يضاهي خطأ رد الفعل الغربي المحدود على غزو روسيا لجورجيا عام 2008 وضمها لشبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014. ويرى مسؤولون من أوروبا الشرقية أن رد الفعل السابق أوحى للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه يمكنه الإفلات من العقاب على مهاجمة جيرانه. 
صحيح أن معظم الدول في أوروبا الشرقية لا تتوقع غزوا وشيكا، مستشهدة بحقيقة وقوع القوات الروسية في مستنقع أوكرانيا وحاجتها المحتملة لوقت طويل لإعادة تجميع صفوفها بعد الحرب. لكن هذه الدول تجادل بضرورة توافر قوات أشد بأسا في الشرق حتى لا تعود روسيا لما فعلته في أوكرانيا. وتتصور دول أوروبا الشرقية- بما في ذلك دول البلطيق وبولندا- تواجد فرق كبيرة من قوات الناتو تضم عشرات الآلاف من القوات والوحدات التي توفر دفاعات جوية وغيرها من وسائل الحماية. ووفق خطة دول البلطيق، لن يتم نشر فرقة كاملة من القوات بشكل دائم في كل دولة، بل يتم وضع معداتهم هناك سلفا ويقوم الناتو بتعيين آلاف القوات الإضافية لتكون مستعدة للذهاب لكل دولة في حالة حدوث أزمة. ولا يتواجد من قوات الناتو بشكل دائم إلا لواء واحد قوامه 6000 جندي على الأرض في كل دولة، مقارنة مع 2000 جندي قبل فبراير، وفقا للاقتراح الذي اطلعت عليه واشنطن بوست. وتستضيف بولندا أكثر من عشرة آلاف جندي أميركي بعد أن كان عددهم 4500 جندي أميركي قبل الحرب، وترغب بولندا في استضافة المزيد من القوات في المستقبل. 

ويؤكد مسؤولون أميركيون أن هناك اتفاقاً واسعاً عبر «الناتو» حول عدم مطالبة الدول الواقعة في الجناح الشرقي بتحمل وطأة هجوم حتى تصل تعزيزات الحلف. لكنهم يرون أن التمركز الدائم لأعداد كبيرة من قوات «الناتو» في الشرق باهظ الكلفة وغير عملي، ويفضلون بدلا من ذلك تهيئة الظروف. والظروف تتضمن وضع المعدات سلفا، واختيار وحدات بحرية وهيكل قيادة جديد سلفا مما يسمح لحلف الناتو بالتوسع بسرعة حتى يصل عدد القوات إلى الأرقام التي ترغبها الدول الأعضاء الأكثر تعرضا للخطر.
وعززت إدارة بايدن بالفعل تواجدها العسكري في أوروبا من نحو 60 ألف إلى أكثر من 100 ألف جندي، ردا على حشد القوات الروسية والهجوم على أوكرانيا. وتضغط دول أوروبا الشرقية أيضا على الناتو كي يتخلى رسميا عن اتفاق أُبرم عام 1997 يمنع الانتشار الدائم لقوات الحلف شرقي ألمانيا مقابل التزام روسي بالحفاظ على السلام. ويتفق معظم مسؤولي الحلف على سقوط الاتفاق ليس فقط بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا لكن لأن الكرملين نشر قوات روسية في بيلاروسيا، على مسافة تهديد سهلة من العاصمة الليتوانية فيلنيوس. لكن بعض المسؤولين في أوروبا الغربية والولايات المتحدة يخشون التخلي التام عن الاتفاق، قائلين إنه وسيلة مفيدة للتنسيق بين الناتو وروسيا في المستقبل. كما يخشى هؤلاء المسؤولون من أن يهمل الحلف التهديدات الأخرى التي ركز عليها في السنوات الماضية، مثل الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وهي قضايا تثير قلقا أكبر لبلدان بعيدة عن روسيا لكنها قريبة من شمال أفريقيا مثل إسبانيا وإيطاليا. 

مايكل بيرنباوم

رئيس مكتب واشنطن السابق في بروكسل وموسكو وبرلين

ميسي رايان

صحفية أميركية متخصصة في شؤون الدبلوماسية والأمن القومي ومراسلة سابقة في العراق ومصر وليبيا ولبنان واليمن وأفغانستان وباكستان والمكسيك وبيرو والأرجنتين وتشيلي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»