إذا كان تخيل اندلاع حرب في أوروبا المعاصرة يبدو ضرباً من المستحيل، فماذا يمكنك أن تقول في الجوع في شوارع أوكرانيا وبلداتها، حيث كانت تنتشر مطاعم السوتشي والبرغر قبل أسبوعين فقط؟! فاليوم أخذ الجوع يلوح في أفق سلة خبز أوروبا الأسطورية ويظهر بسرعة شبيهة بسرعة انتشار العدوى. 

فحتى الآن، عبر أكثر من مليون لاجئ أوكراني – وربما عدة ملايين قريباً – الحدود أو يحاولون عبورها. وحتى في الوقت الذي تقوم فيه المنظمات الإنسانية والحكومات بإطعام الأشخاص الذي نجحوا في العبور، أخذت الأنظمة التي تُطعم عشرات الملايين من الأشخاص العالقين داخل أوكرانيا تنهار: شاحنات وقطارات مدمَّرة، ومطارات مقصوفة، وجسور محطَّمة، وأسواق أُفرغت، ومخازن نفدت محتوياتها. 
الشعب الأوكراني يعرف جيدا كيف يمكن لحديقةِ وفرةٍ أن تصبح قاحلة وجرداء بسرعة بسبب قرارات سياسية. ففي 1932 و1933، مات ملايين الأوكرانيين في ما يسميه الأوكرانيون الـ«هولودومور»، أو المجاعة، عندما فرض  جوزيف ستالين «المزارع الجماعية»، ما جرّد المزارعين الفلاحين من أراضيهم ومحاصيلهم. 
وإذا كان الجوع يهدد أوكرانيا بشكل مباشر، فإن تداعيات هذه الحرب ستمتد عبر العالم. ذلك أن روسيا وأوكرانيا تصدِّران معاً نحو 30 في المئة من قمح العالم. فقد كان دخول أوكرانيا كلاعب رئيسي في سلسلة الإمداد العالمية خلال العقد الماضي جزءاً من نجاحها المتنامي كبلد مستقر ومزدهر. وبينما تزداد الحرب سخونة، من المنتظر أن تشعر عشرات البلدان البعيدة بحرارتها وتتأثر بتداعياتها. 
فقريباً جداً، سيحاول المزارعون الأوكرانيون الناجون بذر حقولهم الربيعية في بعض من أجود أراضي العالم، حيث كان «برنامج الغذاء العالمي» يحصل على أكثر من نصف قمحه حتى الآن. فمنظمتنا تشتري حوالي 400 طن متري من الغذاء عالمياً كل ساعة، وتنقل ذلك عبر العالم بوساطة السفن والطائرات والشاحنات. 
كان القمح الأوكراني ينقل بسرعة على حزام الأسواق الدولية الناقل إلى عملياتنا الإنسانية في بلدان أخرى تعاني من الحروب، مثل أفغانستان والسودان واليمن، حيث يترنح الملايين على شفا المجاعة. ولكن ذاك الحزام الناقل أخذ يتحرك في الاتجاه المعاكس الآن، في وقت يتعبأ فيه «برنامج الغذاء العالمي» من أجل مساعدة أكثر من 3 ملايين أوكراني داخل البلاد وخارجها، بكلفة تناهز نصف مليار دولار على مدى الأشهر القليلة المقبلة. 
وأما إذا لم تُحرث الحقول الأوكرانية هذا العام ولم تزرع، فإن المنظمات الإغاثية والإنسانية مثل منظمتنا ستضطر لإيجاد أسواق جديدة لتعويض خسارة بعض من أفضل أنواع القمح في العالم. ولكن القيام بذلك سيكون بكلفة مرتفعة جداً. 
وبسبب الندرة والحرب وتداعيات الوباء الاقتصادية وأسعار النفط التي ارتفعت إلى أعلى مستوى لها منذ 13 عاما، شرع «برنامج الغذاء العالمي» في دفع 30 % أكثر مقابل الغذاء مقارنة مع ما كان يدفعه في 2019، أي ما يعادل 50 مليون دولار إضافية كل شهر. وإذا تعرضت ممرات النقل في البحر الأسود لاضطرابات أكثر جراء هذه الحرب، فلا شك أن أسعار النقل سترتفع تبعا لذلك حيث ستتضاعف مرتين أو أكثر. 
وبسرعة، ستزداد الدول الأكثر هشاشة انكشافاً وتأثراً بسبب هذه الحرب.
بين 2019 واليوم، ارتفع عدد الأشخاص الذين يوجدون على حافة المجاعة من 27 مليوناً إلى 44 مليوناً. على أن 232 مليون شخص إضافي يوجدون على بعد خطوة واحدة خلف هذه الفئة. وقد ساعد «برنامج الغذاء العالمي» نحو 128 مليوناً من هؤلاء الأفراد العام الماضي وأمدّهم بمساعدات مادية وغذائية. غير أن هذه الأرقام ما انفكت تتزايد بسبب الحرب، وتغير المناخ، وكوفيدـ 19، والآن الكلفة. على أن تأثيرات هذا الجوع وتداعياته باتت تطال كل مكان، من ممر أميركا اللاتينية الجاف إلى رمال الصومال التي ضربها الجفاف. 
هذه التأثيرات الميدانية باتت تفرض اختيارات قاسية جدا. فنظراً لانخفاض مستويات تمويلنا لأن خزائن الدول المانحة باتت منهكة، اضطررنا لتقليص حصص الغذاء التي نقدمها للاجئين وغيرهم من السكان المحتاجين للمساعدة عبر شرق أفريقيا والشرق الأوسط. والحال أن الحصص المقلَّصة بالنصف تعني أطفالاً يعانون من الجوع ويأكلون ما يعادل وعاء واحداً فقط من الحبوب كل يوم. 
إن الوضع لم يكن بكل هذه السوداوية قبل بضعة أسابيع فقط. فقد كانت هناك بعض المؤشرات المبكرة على أن الاقتصادات أخذت تتعافى من الجائحة. والأكيد أن تأثيرات الحرب في أوكرانيا ستظل محسوسة عبر العالم لسنوات مقبلة. 

ديفيد بيسلي

المدير التنفيذي لـ«برنامج الغذاء العالمي» التابع للأمم المتحدة والبرنامج حائز على جائزة نوبل للسلام عام 2020
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»