تعد الأزمة الأوكرانية نقطة اختبار للنظام العالمي الذي تأسس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهي النقطة الأوضح للانفصال التام بين أوهام نهاية التاريخ المنتشية بالنصر وواقع المنافسة المحتدمة بين القوى الكبرى.

إذ تتلخص المعضلة الأوكرانية اليوم في فشل محاولات تأسيس نظام مستدام للأمن في فترة ما بعد الحرب الباردة في أوراسيا؛ فانهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه إلى جمهوريات مستقلة في ديسمبر 1991 لا يعني بأي حال من الأحوال خروج تلك الجمهوريات من دائرة نفوذ الكرملين أو أن القدرات السوفييتية انتهت بين ليلة وضحاها، بل إن التاريخ طالما أثبت بأن انهيار الإمبراطوريات في لحظة تاريخية وتَفكُّكَها نتيجةً لعوامل داخلية أو خارجية لا تندثر معه الخارطة السياسية، بل تبقى في الذاكرة الجمعية حتى اللحظة التاريخية المناسبة لتعود المطالبات التاريخية بالعودة في الخطاب السياسي للقادة الطموحين لاستعادة أمجاد الإمبراطورية واستعادة الأقاليم التي تنازلت عنها أو فقدت سيطرتها عليها، لتطلق محاولات التوسع والاستتباع كلَّما وجدت فرصةً لإلحاقها. ويعطي الاتحاد السوفييتي مثالاً واضحاً لانهيار وقيام الإمبراطوريات عبر التاريخ. واليوم تجد أوكرانيا نفسَها تخضع لحركة التاريخ هذه.

ففي مطلع ديسمبر 1991 صوت أكثر من 90 في المئة من الناخبين في أوكرانيا (ثاني أقوى جمهورية في الاتحاد السوفييتي) بأغلبية ساحقة (بما فيهم 54 بالمئة من الناخبين في شبه جزيرة القرم ذات الأغلبية الروسية، وأكثر من 80 بالمئة في منطقة دونباس) لصالح إعلان استقلال أوكرانيا. وفور استقلالها أصبحت أوكرانيا ثالث أكبر قوة نووية في العالم، إذ ورثت ثلث ترسانة الاتحاد السوفييتي النووية.

وفي ديسمبر 1994 وخلال مؤتمر بودابست، وافقت أوكرانيا على نزع أسلحتها النووية والانضمام إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النوّوية مقابل الحصول على تعهد بسيادتها الإقليمية. وقادت واشنطن آنذاك إنشاء منظمة أمنية مرتبطة بحلف «الناتو» هي «الشراكة من أجل السلام»، والتي أتاحا لجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق الانضمام إليها. وعوضاً عن تعزيز الحلف الأمني الناشئ («الشراكة من أجل السلام») ظهرت محاولات توسيع «الناتو» وضم عدد من الدول المختارة في أوروبا الوسطى والشرقية إليه. ففي مارس 2004 قبل «الناتو» انضمام دول البلطيق الثلاثة، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، ومن بعدها التشيك وهنغاريا وبولندا وسلوفاكيا وسلوفينيا.

وبدا أن توسع «الناتو» لن يقف عند هذه الحدود، وهكذا وجدت أوكرانيا نفسها بين معضلتي الرغبة في الالتحاق بدول الاتحاد الأوروبي والانضمام لحلف الناتو ومعضلة الجغرافيا السياسية جراء وجودها على الحدود الروسية.. فظهرت تطلعات كييف إلى أن تصبح عضواً في الحلف، وفي قمة الناتو لعام 2008 (عقدت في بوخارست) رحَّبت الدول الأوروبية بتطلعات أوكرانيا إلى أن تصبح عضواً في الحلف، لكن دون تحديد الزمن والكيفية، وتم الاتفاق على النظر في طلبي أوكرانيا وجورجيا الانضمام للناتو.

وفي المقابل عارضت روسيا بشدة تمدد حلف «الناتو» شرقاً. بالنسبة لأوكرانيا فروسيا لا تعتبرها جزءاً حيوياً من إمبراطوريتها السابقة فحسب، بل القلب التاريخي والعرقي لروسيا الحديثة. ولذا أصبح وضع أوكرانيا حساساً بعد سيطرة القوات الروسية على شبه جزيرة القرم عام 2014، إذ قلل النزاع الإقليمي حول القرم من حظوظ أوكرانيا في أن تصبح عضواً في الناتو، بينما تزايدت رغبتها في الانضمام للحلف. وهكذا وجدت أوكرانيا نفسَها، ونتيجةً لكل العوامل السابقة، حلبةً للصراع ولتصفية الحسابات وتصادم مصالح القوى الكبرى، وهذا هو جوهر الأزمة الأوكرانية اليوم.

*كاتبة إماراتية