تخيّل لو عشنا في عالم بديل انتُخب فيه «الجمهوري» جورج إتش. دبليو. بوش رئيساً في عام 1980 وبقي في منصبه حتى 1996.

وبعد ذلك أعقبه «الديمقراطي» مايكل دوكاكيس لولايتين. وخلال الـ16 عاماً التالية، تولى «الجمهوري» ميت رومني الرئاسة. وأخيراً، في عام 2020، حل محل رومني نائبُ الرئيس «الديمقراطي» جو بايدن. في مثل هذا العالم، لا شك أن حياتنا السياسية كانت ستكون أكثر مللاً ورتابة وأكثر عقلانية وحصافة، وهذا تقريباً هو ما حققته ألمانيا. فهيلموت كول، من «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» المحسوب على يمين الوسط، كان مستشاراً من عام 1982 إلى عام 1998. تلاه غيرهارد شرودر، من «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» المحسوب على يسار الوسط، من عام 1998 إلى عام 2005. وخلال 16 عاماً الماضية، تولت قيادة ألمانيا أنجيلا ميركل، من «الاتحاد الديمقراطي المسيحي»، حيث حكمت معظم تلك الفترة ضمن ائتلاف مع «الحزب الديمقراطي الاجتماعي». المستشارة ميركل تغادر المنصب بمعدلات تأييد شعبي أعلى من أي زعيم عالمي آخر.

فقد قلّصت معدل البطالة الألماني، وحافظت على الاستقرار، واجتازت بنجاحٍ التحديات التي واجهت بلدها من قبيل أزمة الديون في منطقة اليورو في 2009، وموجة التدفق الكبير للاجئين في 2015، ووباء فيروس كورونا في عامي 2020 و2021. ولهذا، فلا غرو أن زعيمي «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» و«الحزب الديمقراطي الاجتماعي» كانا يتنافسان على من منهما سيُنظر إليه باعتباره وريثَها. الفائز، بهامش ضيق جداً، في انتخابات الأحد كان «أولاف شلوتس»، من «الحزب الديمقراطي الاجتماعي»، الذي كان يشغل منصب نائب المستشارة ميركل ووزير المالية خلال الثلاث سنوات ونصف السنة الماضية. وكان قد روّج لنفسه باعتباره «أنجيلا الثاني»، بما في ذلك القيام بنفس حركة اليدين المجتمعتين التي اشتهرت بها ميركل. أما منافسه الرئيسي «آرمن لاشيت»، من «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» –والذي قد يكون قادراً مع ذلك على تشكيل ائتلاف حاكم مع أحزاب صغيرة– فقد كان مملاً وحسب.

وبالطبع، فلألمانيا متطرفوها السياسيون الخاصون بها أيضاً؛ يمينيون يعارضون لقاحات فيروس كورونا، ويحذرون من الغش المتعلق بماكينات التصويت التابعة لشركة «دومينيون فوتينغ سيستمز» (رغم أن ماكيناتها لا تستخدم في ألمانيا)، ويتبنون نظريات المؤامرة! ويمثّل آراءَهم حزبُ «البديل من أجل ألمانيا»، الذي أصبح في عام 2017 ثالثَ أكبر حزب في البرلمان الاتحادي الألماني «البوندستاغ».

لكن الأحزاب الرئيسة رفضت ربط أي علاقة معه، وهو لم يقترب أبداً من السلطة. وفي انتخابات الأحد الماضي، انخفضت حصة «البديل من أجل ألمانيا» من 13٪ إلى 10,5٪، ما حوّله إلى خامس أكبر حزب في البلاد. وياله من تباين مع الولايات المتحدة، حيث انتُخب يميني متطرف (دونالد ترامب) رئيساً للبلاد وما زال أنصاره يهيمنون على أحد الحزبين الرئيسيين. ولا غرو أن تبلى ألمانيا، العقلانية وباردة الطبع، بلاءً أحسن بكثير من الولايات المتحدة في ما يتعلق بمؤشرات «جودة الحياة».

وحتى نكتفي بمثال واحد فقط، فإن ألمانيا لديها نحو نصف وفيات «كوفيد-19» لكل مليون نسمة من السكان مقارنة بأميركا، ونسبة سكانها الملقَّحين تلقيحاً كاملا أعلى بتسع نقاط. كما أن لدى ألمانيا متوسط أمد حياة أعلى من الولايات المتحدة. وهذا قد تكون له علاقة بحقيقة أن لدى ألمانيا تغطية صحية عامة، خلافاً للولايات المتحدة. وفضلاً عن ذلك، فإن معدل جرائم القتل في الولايات المتحدة أعلى ست مرات من نظيره في ألمانيا (1٪ من الألمان فقط يمتلكون سلاحاً نارياً، مقارنة مع نحو 30٪ من الأميركيين).

وإذا كانت الولايات المتحدة أغنى من ألمانيا قليلا من حيث حصة الفرد، فإن ألمانيا لديها معدل أقل بشكل مهم من الولايات المتحدة بخصوص انعدام المساواة في الدخل، ومع ذلك فإنها ما زالت ثرية. والواقع أنه وفق أي تقييم موضوعي، فإن ألمانيا محكومة بشكل أفضل بكثير من الولايات المتحدة. والسؤال هو لماذا؟ مرد ذلك، في تقديري، يعود إلى تفضيلات الناخبين الألمان وتصميم النظام السياسي الألماني، وهما عاملان مترابطان بالطبع. فألمانيا تختار زعماءَها ضمن عملية معقدة يختار خلالها الناخبون مرشحَ الدائرة الانتخابية المحلية وقائمة الحزب السياسي. والنتيجة هي أن المستشارين يتسلّمون السلطة بعد مفاوضات –بدأت الآن– بين زعماء الأحزاب السياسية الأولى.

وهذا الأمر يولي قيمةً عاليةً لزعامة وسطية وتوافقية ويخفّف المشاعر السياسية للجمهور. وبالمقابل، تُعد الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة ضعيفةً وعرضةً للاختطاف من قبل الحركات الشعبوية. وبالنظر إلى ذكرياتهم التاريخية مع الزعيم النازي أدولف هيتلر، فإن الناخبين الألمان يرتابون في السياسيين الذين لديهم كاريزما. فهم لا يريدون زعماء يثيرونهم ويهيّجونهم، وإنما يريدون زعماء يحكمونهم بكفاءة. وبالمقابل، يريد الأميركيون الترفيه والتسلية من سياسييهم. لكننا ندفع ثمناً باهظا لأننا نولي قيمة عاليةً للخطابة ونفضلها على الكفاءة ونفضل الجِدة على التجربة.

في كل الانتخابات الرئاسية الأميركية تقريباً، يفوز المرشحون الذين يتمتعون بقدر أكبر من الكاريزما. والانتخابات الأخيرة شكّلت استثناءً فقط لأن البلاد عانت بشكل كبير من سوء إدارة ترامب لـ«كوفيد-19». وحتى في تلك الحالة، فإن تحولا في 43 ألف صوت فقط في ثلاث ولايات كان يمكن أن يمنحه ولاية ثانية. واليوم، ما زال ترامب يحكم قبضته على الحزب الجمهوري رغم هجومه على الديمقراطية.

وخلاصة القول هي أن ألمانيا سبق لها أن رأت إلى أين يمكن أن تؤدي الحركات غير الديمقراطية التي يقودها زعماء يتمتعون بالكاريزما، وقد اختارت بحصافة تكنوقراطيين أكفاء بدلاً منهم. وبالمقابل، لم تتعلم الولايات المتحدة هذا الدرس بعد. وبالنظر لرغبتنا الشديدة في الترفيه والتسلية السياسية وللاستقطاب السياسي المتصاعد، يبدو بلدنا متجهاً نحو كارثة.

*كاتب أميركي وزميل مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك .

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»