بعد ثلاثة عشر شهراً من المماحكات حول الصلاحيات والأسماء بين رئيس الجمهورية وصهره من جهة، وثلاثة من رؤساء الحكومة المكلفين من مجلس النواب من جهةٍ ثانية، تشكلت الحكومة اللبنانية العتيدة أخيراً من أربعة وعشرين وزيراً، لا يتشابهون في شيء إلا في أنه ينطبق عليهم تعريف أهل مجلس سقراط للإنسان: يمشي على قدمين، وليس على جسده ريش!
وخلال أشهُر المحنة والانهيار الطويلة ما بقي أحدٌ في الشرق أو الغرب إلا واستصرخ رئيس الجمهورية كي يوافق على حكومة «اختصاصيين» حتى لا تعطّلها الخلافات السياسية، وتكون قادرةً على وقف الانهيار والذهاب من أجل المساعدة في ذلك إلى صندوق النقد الدولي والجهات الغربية الأخرى. بيد أن الحكومة التي تشكلت بعد جهدٍ أسطوري، جاءت حِصصاً حصصاً والاختصاصيون فيها في أي شيء- إلا في التحزب لهذا أو ذاك- أندر من الكبريت الأحمر!
لكنّ الأفدح في اعتبار مدى قدرة الحكومة الجديدة على التصرف، إنما هو الاختلاف الشاسع بين الأطراف المتشاركة في تشكيلها. فرئيس الجمهورية وصحبه وزعيم الحزب السائد على الساحة كانا يعارضان الإصلاحات الجذرية، باعتبارها مخلّة بمصالح الشعب، كما يعارضان الذهاب لصندوق النقد الدولي لطلب المساعدة، لأنّ فيها تبعيةً للنظام الرأسمالي العالمي! ومن مظاهر «التمرد» على ذاك النظام الاستغلالي تحمّسهم مع رئيس الحكومة التي شكّلوها آنذاك (حسان دياب) للتوقف عن دفع فوائد الدَّين للجهات الدولية التي اقترض منها لبنان. وقد ترتب على ذلك الانسداد على لبنان في المجال الدولي، واستنزاف احتياطي البنك المركزي من العملات الصعبة (وهي مِلْك المودعين اللبنانيين) في دعم أسعار الموادّ الأساسية المستورَدة من محروقاتٍ وأدوية وأغذية! المهم أنه، وبعد ثلاثة عشر شهراً أنفق خلالها المصرف المركزي ثمانية عشر مليار دولار على دعم السِلَع والمحروقات، وهُرّب معظمها إلى سوريا، تعود الحكومة الجديدة إلى نفس البرنامج الذي عارضته الجهتان الرئيسيتان اللتان وافقتا على تشكيلها هذه المرة أيضاً!
لقد رحّبت جهاتٌ دوليةٌ وعربيةٌ بتشكيل الحكومة أخيراً ورجتْ وسط الانهيار الشامل في سائر القطاعات أن تتمّ الإصلاحات بسرعة، وأن يصار خلال أسبوعين للتفاوض مع صندوق النقد الدولي بدعمٍ من الفرنسيين.. والأميركيين! وقد صمت العونيون و«حزب الله» عن الاعتراض على هذا البرنامج، لكنّ الخلاف بدأ يظهر أثناء مناقشة البيان الوزاري في أمرين آخرين: النص في البيان على إجراء الانتخابات في الربيع، ورفع الحصانات عن الرؤساء والوزراء والنواب الذين اتهمهم القاضي العدلي بالمشاركة في ارتكاب جريمة تفجير مرفأ بيروت! في الأمر الأول هناك خلافٌ على قانون الانتخابات الذي أُجريت بمقتضاه انتخابات عام 2018، وتفوّق بمقتضاه العونيون والحزب. وفي الأمر الثاني فإنّ معظم المتهمين من المسلمين السنّة والشيعة، وبينهم حسان دياب الذي صدرت بحقه من القاضي المذكور مذكّرةَ إحضار تجنّب الخضوع لها بالسفر إلى الولايات المتحدة! والملفّ الخطير هذا عرضة لتطورات احتج عليها المفتي ورؤساء الوزراء السنّة، وقبلهم رئيس مجلس النواب وزعيم الحزب!
ما استطاع الاقتصاد اللبناني التمرد إذن على آليات النظام الرأسمالي العالمي، وقد شارف قطاعه المصرفي العريق على الانهيار، واحتجز لحماية نفسه أموال المودعين الصغار الذين لم يستطيعوا سحبها أو تهريبها إلى الخارج كما فعل كبار السياسيين ورجال الأعمال وأصحاب البنوك!
هل تستطيع الحكومة اللبنانية العتيدة أن تتجاوز كل العقبات المتراكمة في المنظومة والنظام فتوقف الانهيار وتذهب إلى الانتخابات؟ الغربيون لا يعرفون -كما صار مشهوراً– غير دواء الانتخابات للخروج من المأزق. وهو الأمر الذي يصر عليه كل السياسيين المسيحيين ظاهراً! والمسلمون الذين سَرَّهم تشكُّل الحكومة لأنّ رئيسها منهم، يسوؤهم أنّ سياسييهم مُستدعَون لدى المحقق العدلي، كأنما هم الذين فجّروا مرفأ بيروت. ولله الأمر من قبل ومن بعد!
 
أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية