لعل الإنسان في هذه المرحلة الحساسة يستغرب من تضارب الأحداث وتداعياتها وتناقضاتها، وسرعة سريان الزمن على عجل بدون توقف ولا استراحة، حتى أصبحت عجلة الحياة تبدو وكأنها أسرع من قدرة الإنسان على المتابعة والرصد. بالأمس ودّعنا شهر رمضان المبارك واليوم على مشارف قدومه مرة ثانية، والأدهى والأغرب هو عدد السنوات التي خلت، وأصبحت خلف ظهورنا بسرعة غير عادية لا نستطيع أن نتذكر مواقعها وقصصها وأحداثها وسلسلة محطاتها.
صحيح أننا لا نملك تغيير الماضي ولا القدرة على استشعار ما سيحدث في المستقبل، أي لا نعلم الغيب ولا حتى نستطيع رسم خارطة طريق دقيقة لأنفسنا.. لكن المؤكد، ونحن نخوض مراحل الحياة وتفاصيلها اليومية، أن لكل شيء نهاية! قال تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس).
وفي وقت أصبحت فيه أيضاً المنظومة القيمية الاجتماعية تتغير بسرعة ملحوظة، بل تندثر كثير من معالمها القديمة، نتفاجأ بتغير سلوك الإنسان ليصبح أقل انضباطاً ومبالاةً بتاريخ أهله وأسرته ومجتمعة، وحتى ذاته الفردية أيضاً، وكأنه يريد أن يتخلى عن العادات والتقاليد التي ورثها من بيئته ومحيطه، ليضعها عنوةً خلف ظهره، وبذلك فهو يجاري الجيل الجديد ويحاول أن يندمج في جيل غير جيله، وأن يوهم نفسه المتوترة بالانسجام مع الجيل والعصر رغم تقدمه في السن وعمره الافتراضي القريب من نهايته.. ورغم ذلك فهو لا يتناغم مع تركيبته السيكلوجية بعد أن اشتعل رأسه شيباً وبلغ من الكبر عتياً، ولا يدرك أن السلوك والأنماط الحياتية بُنيت وأُسست على أساس تراكمي، معرفي ونفسي، وهو ما يرفض على الإنسان أن ينصهر ويتأقلم مع بيئته ومجتمعه ومع ماضيه لا أن يحاول الانسلاخ من ذلك كله. إن حقائق الوجود الإنساني تفرض على الإنسان أن يتناغم مع ماضي تربيته وتنشئته، لكيلا يكون حالة شاذة غير مرغوب فيها داخل محيطه، ومنعاً لاختلال التوازنات أو نشوء حالة نفور وسوء تفاهم مع المجموعة التي يعيش ويقطن بين ظهرانيها ويختلط معها.. ولكي يكون في حالة طبيعية ومنسجمة مع من حوله، من دون منازعات ولا فوارق واختلافات كبيرة.
لكن لوحظ في هذه الفترة الحساسة من تاريخ العالم والمجتمعات والأفراد، أن هناك تنافراً وعدم انسجام بين الأجيال وبعض الأفراد، فمنهم من يريد أن «يتصابى» ويتقمص شخصية الشاب المتحرر المغامر أو الفتاة التي ما تزال مراهقة في مقتبل العمر، متناسيين أن القطار قد فاتهما وأن الزمن قد تجاوزهما بسرعة كلمح البصر، وبالتالي فمن غير اللائق بالمرء أن يمارس سلوكاً لا يتماشى مع عمره الذي يفرض عليه الرزانة والسلوك المتعقّل، لكيلا تكون لديه شخصية مضطربة أو ازدواجية في السلوك والمواقف والتصرفات والأعمال!
ومبدأ تغير السلوك وميله نحو النضج والرشد مع التقدم في العمر مبدأ ينطبق على كل الكائنات الحية، بل وحتى بعض الجمادات. لذلك عندما تجد سيارة من أي نوع لابد أن تكون قدرة محركها مناسبة لحجمها، وأن يكون ناقل الحركة بنفس مستوى قوة المحرك لكيلا يتحمل أحدهما ضغطاً يؤدي إلى خلل أو تعطل ميكانيكي يشل حركة المركبة!
عندما كنت أتحدث لصديق حول مثل هذه الحالات من السلوك عند البعض، أفادني بمعلومة طريفة حيث قال: «الطبيب المعالج يتمنى أن تكون مريضاً، صاحب محل الملابس يتمنى أن تكون عارياً، ومحل صاحب الأحذية يتمنى أن تكون حافياً، ومالك المطعم يتمنى أن تكون جائعاً، والمحامي يتمنى أن تغرق في المشاكل والمصائب لكي يدافع عنك.. إلا الحرامي (اللص) يتمنى أن تكون غنياً لكي يسرق ما لديك»!
وهنا تذكرت نفسي حين راجعت طبيب الأسنان العربي، ولما فتح فمي، قال لي: لم تترك لنا شيئاً نستفيد منه أبداً، وعندها أغلقت فمي ومحفظتي معاً، وحمدت الله أن أسناني سليمة ومحفظتي في مخبئي!

*كاتب سعودي