«أحفروا في العقول وليس في الحقول».. مقولة يتوقع المرء سماعها من عالم تربوي أو عالم اجتماع أو منظّر في الثقافة، لكن من غير المتوقع أن يسمعها من عالم اقتصاد غير عادي في مجاله كالبروفيسور «ميلتون فريدمان»، الذي تأتي في صلب اهتماماته معرفة الموارد الطبيعية والمداخيل المالية القومية، والكساد والتضخم والتنمية وتحليل الاستهلاك والمعروض النقدي، ووضع نظريات في شرح سياسات التوازن الاقتصادي التي أهلته وأخرى غيرها للفوز بجائزة نوبل للاقتصاد عام 1976.
«ميلتون» الذي توفي في كاليفورنيا عام 2006 كان لسنوات أحد كتّاب صحيفة «نيويورك تايمز» اللامعين ممن يحظون بعدد كبير من القراء والمتابعين، يشدّهم في ما يكتب أسلوبه واختياره للأفكار التي غالباً ما تكون خارج اختصاصه في علم الاقتصاد، وتمس هموم الشباب في المجتمع. في إحدى مقالاته كتب يقول: عندما أُسأل عن أفضل مكان لديّ، فإني أجيب: تايوان. فهي منطقة خالية من أي موارد طبيعية وأرضها صخرية وتقع في بحر تتلاطمه العواصف من كل جهة، وبحاجة لاستيراد كل شيء حتى الرمل والحصى، ومع هذا تمتلك رابع أفضل احتياطي مالي في العالم. لكن كيف وصلت تايوان إلى هذه المكانة المالية المتقدمة عالمياً؟
يعزو ميلتون في مقاله وصول تايوان لهذا المستوى المتقدم عالمياً إلى الطاقة البشرية التي جرى الاستثمار فيها على مدى عقود من الزمن. ويقول إن تايوان اختارت الحفر في عقول أبنائها بحثاً عن الإبداع بدلاً من الحفر في الأرض والحقول بحثاً عن المعادن، فالبشر هم طاقتها الوحيدة غير الناضبة والقابلة للتجديد. ويرى ميلتون أنه يمكن قياس تقدم أي مدينة أو منطقة أو بلد في القرن الحادي والعشرين، من خلال ما ينفقه على تكوين المدرّس الناجح وتربية الأبناء وزرع الجدية فيهم والاهتمام بمقرراتهم، وليس بما يملكه من ذهب وألماس ونفط. فمستوى مخرجات التعليم هو الذي سيحدّد قوة أمم المستقبل وثراءها وليس الدخل من الموارد الطبيعية. ويرى ميلتون أنه من المفيد أن يكون لدى بلد ما ألماس ونفط وغاز، «لكن كل ذلك يصبح بلا جدوى إن لم يجر استغلاله بطريقة سليمة»، أي بتوجهه إلى أهم عوامل النهوض الأساسية وعلى رأسها الشباب.
وخلاصة القول ما قاله الأجداد: ابنِ ابنك ولا تبني له، واستثمر فيه ولا تستثمر من أجله.