نتذكر تصريحات الرئيس الفرنسي حول «الموت السريري» لحلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ أزيد من سنة، والتي أثارت الجدل بموازاة مع احتفال زعماء الدول والحكومات في لندن بالذكرى السبعين لتأسيس الحلف. وقد وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب تصريحات نظيره الفرنسي ماكرون يومذاك بأنها «سيئة» و«مهينة» و«شديدة الخطورة».. واعتبر أنه «لا أحد يحتاج للناتو أكثر من فرنسا». ثم ما فتئ ترامب يقول إن فرنسا تعاني من «معدل بطالة شديد الارتفاع» ومن ضعف في الأداء الاقتصادي ومشكلات مع محتجي «السترات الصفراء». كما انتقد ضريبة جديدة أقرَّتها فرنسا، تطال بشكل أساسي عمالقة الإنترنت غوغل وأمازون وآبل وفيسبوك، وكلها شركات أميركية.
وحسب الرئيس الفرنسي، لا يمكن التعويل على الأميركيين كضامن للأمن الأوروبي. لذا يوصي في كل خرجاته الإعلامية بأنه يجب على الأوروبيين أخذ الدفاع بأيديهم، وإلا سيهددهم التهميش الجيوسياسي، وستصل المجموعة الأوروبية إلى ما لا تحمد عقباه. هذا الكلام كنا نسمعه طيلة ولاية الرئيس ترامب. والسؤال المطروح هنا: هل يستطيع ماكرون المجيء بمشروع واقعي وجاد حول حكم ذاتي استراتيجي لأوروبا، مع وصول بايدن إلى عرش البيت الأبيض؟ 
رحّبت أوروبا بفوز بايدن، الرئيس الأميركي الجديد، بعد أربع سنوات من المشاكل مع الرئيس ترامب، وهذا الترحيب يأتي في ظل تهديدات لمشروع ماكرون القائم على الاستقلال الجيوسياسي للاتحاد الأوروبي. ولا جرم أن رؤية الرئيس الفرنسي كانت تستمد قوتها من هجوم ترامب المستمر على أوروبا، أما اليوم فستتغير الأمور بأكملها.
وفي مقابلة مطولة أُجريت مع ماكرون مؤخراً، تساءل: «هل يؤدي تغيير الإدارة الأميركية إلى تخلي الأوروبيين عن الجهود المبذولة لتحقيق قدر أكبر من الحكم الذاتي الاستراتيجي؟». وشرح ماكرون استراتيجيته التي تهدف إلى أن تكون أوروبا قادرة على الاحتفاظ بمكانتها في عالم يُهيمن عليه عمالقة مثل الولايات المتحدة والصين، شرحاً مستفيضاً، وأبرز الاختلافات الثقافية والجيوسياسية بين الطرفين الواقعين على جانبي المحيط الأطلسي، وأوضح أن أوروبا ينبغي أن تسعى وراء إثبات أهميتها الاستراتيجية «لنفسها» و«التصدي للاحتكار الصيني الأميركي المزدوج». وقد ظل الرئيس الفرنسي لعدة سنوات يُردد كلماته التي مفادها أن «فرنسا الأكثر قوةً» لن تتحقق سوى من خلال «أوروبا أكثر قوة»، وهو الأمر الذي ظل لعقود جزءاً من بصمة فرنسا الوراثية. وظهر موقف الأليزيه تجاه حلف الناتو، على سبيل المثال، متناقضاً منذ عهد الرئيس ديجول الذي سحب القوات الفرنسية من قيادة الحلف عام 1966، وهو القرار الذي اتُخذ نقيضه تماماً بعد 40 عاماً من ذلك الوقت.
وإذا بقينا في تجربة «الناتو»، فلا أخال أحداً من الدول الأوروبية، بما فيها ألمانيا (أحد أكبر الفاعلين الرئيسيين في أوروبا)، ولا دول أوروبا الشرقية، سيريد زوال الحلف الأطلسي أو خروج أميركا منه. وقد لاحظ المتتبعون الاستراتيجيون تبادل الأفكار المضادة التي كانت لا تخرج إلى العلن فيما مضى، بين ماكرون ووزيرة الدفاع الألمانية «أنجريت كرامب كارينباور» التي دعت في مقال لها، نُشر في صحيفة «بولتيكو» الأميركية، إلى «ضرورة وضع حد لأوهام الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي: لن يتمكن الأوروبيون من استبدال دور أميركا الحاسم بوصفها موفرةً للأمن»، وهو الرأي الذي أعرب ماكرون عن اختلافه الشديد معه فيما بعد. 
والذي لاحظه الخبراء الاستراتيجيون، هو أن تصريحات الرئيس الفرنسي أثارت غضب العديد من الشركاء الأوروبيين، إلى درجة أن البعض اتهمه بأنه أخذ لنفسه الحق في التحدث باسم مصالح أوروبا، إلا أنه لم يتحدث مع أوروبا. وفي بولندا ودول البلطيق يشعر الناس بالتهديد من تصورات ماكرون. فهناك يُعتبر حلف «الناتو» الضمانة الوحيدة ضد الجارة الكبيرة المهددة لهم، ألا وهي روسيا. وفي البداية أعلن ماكرون عن نيته تطبيع العلاقات مع روسيا. والآن تظهر كلماته غير مقبولة في تلكم البلدان. 
ومع وصول إدارة جديدة إلى البيت الأبيض تتبنى المدرسة الأوبامية، أظن أن مشروع الحكم الذاتي الاستراتيجي للرئيس الفرنسي سيتبدد، فلا أوروبا تتوفر على الإمكانيات المادية ولا الاستراتيجية الممكنة لذلك، ولا طبيعة النظام العالمي المقبل ستسمح لمعظم الدول الأوروبية بالتفكير في التخلي عن المظلة الأميركية.