هو صراع يبدو أنه وجودي، لا فلسفي في المقام الأول بين الطبيعة ككائن دهري، وبين الإنسان الذي نزل على الأرض ككائن طارئ، ووجد الطبيعة كسيد أوليّ على الكوكب تتوزع الماء واليابسة، ولها قوانينها وسُننها، لكنها ربما ضاقت بهذا الكائن الوافد إليها، وهو ربما ما زال مُدنساً، يحمل وزر خطيئته، فبدأت تحذره وتخيفه وتروعه وتقسو عليه لفرض جزء من جبروتها وسيادتها على المكان، لكن الإنسان بذكائه، وقدراته العالية على التكيف والتأقلم، تحمل حرها وبردها، ريحها ورعدها وبرقها، مرة بتقديم القرابين اتقاء ذاك الشر الذي لم يعرفه بعد، ومرة بالتوجه لظواهرها بالعبادة والمهادنة، فعبد الشمس والنجوم، وصلى للريح، وتحوط من البرق والرعد، لكن فترة المهادنة والتأقلم مع الظروف الطبيعية، روّضها الإنسان في البداية بالسكن في الكهوف، وترك البراري المكشوفة، واتخذ من الأشجار ظلاً وسكناً، وتشكل جسدياً مع الظروف المناخية، فاتسع أنف الأفريقي للكثير من الأوكسجين، وأسود جلده لمقاومة الشمس وأشعتها المختلفة، واستدق أنف الساكن في الشمال والمناطق الباردة، وصار لونه للبياض والحمرة بسبب الملابس الثقال، وغياب الشمس الحارقة، وهكذا، حتى شط به تفكيره، فاكتشف النار، ومجدها بالتقديس في محاولة الخروج من ربق الطبيعة، وبداية الإعلان عن العصيان ضدها، حين عرف الحديد وإذابة القطر، فاشتد ساعده بمعاونة المعاول الجديدة للهدم في بنية الطبيعة، وسخر الحديد في قطع أشجارها، وصيد حيواناتها، وعرف لأول مرة إراقة الدم البشري المقدس على ترابها، وتلك جريمة أولى في التاريخ البشري، فزعت منها الطبيعة وكل من كان عليها، وكانت جرس إنذار بحروب كونية لا تبقي ولا تذرّ في ظل عنجهية الإنسان الذي يُساق لحتفه بصلفه.
تبدل ذلك الصراع بين الطبيعة والإنسان المتطور باستمرار، فشهدت انتهاكاته المتكررة والمتغيرة عبر السنوات ضدها، بالحروب مرة، وبسبب التمدن والصناعة مرة أخرى، وذلك باستباحة الغابات، وقطع الأشجار من أجل فائدة خشبها، والتغيير في المناخ بغية تطويع الطقس، وخدمة زراعاته، والتدخل في الهندسة الوراثية، والإضرار بكل ما هو طبيعي لصالح الكيميائي الذي ابتدعه من أجل التكسب السريع، وتحكيم رأس المال في موجودات الطبيعة، تلك الأنانية التي دفع وسيدفع بسببها الإنسان الكثير في طريق ذلك الصراع الأبدي بينه وبين الطبيعة.
ولم يكتف بذلك الإنسان، فذكاؤه دائماً ما يحضّه نحو المغامرة، وسبر دروب المستقبل، فطور علمه وأدواته من أجل التحكم، ومحاولة السيطرة على الطبيعة من خلال القياسات والحسابات الفلكية، والرياضية، فعرف كيف يتنبأ بسقوط الأمطار، ودخول وقت المواسم والفصول، والزراعة والحصاد، وتحديد أوقات الزلازل والفيضانات، وتفسير ظواهر البرق والرعد، وصنع مضادات الصواعق، وقراءات طوالع النجوم وسير الكواكب، وتأثيرها على الإنسان عقلياً وجسدياً ونفسياً، لكن الطبيعة مدّت له، وأعطته تلك المساحة التي كسبها الإنسان بعلمه وقدرات عقله المذهلة، والتي تكبر مع الأجيال وعبر سنوات الحياة، بحيث صار اليوم باستطاعته التنبؤ بوقت الزلازل والفيضانات والكوارث الطبيعية في كل أرجاء العالم، لكنه لا يقدر أن يحسب الخسائر، ولا ينجم عن النتائج، قدر أن يعرف قدر ارتفاع موج البحر، لكنه لم يأمن لسفينته من غدر البحر.
تلك تأملات في تلك السحابة السوداء، والسماء الغاضبة، والرياح الهوجاء، والأمطار المثقلة التي اقتلعت حديقتي الجميلة التي تحوّط منزلي، وتعطي لأيامي لوناً من ورد وعطر وحب، بحيث لم يستحمل قلبي الصغير الذي يشبه كف طفل رضيع!