بغياب «خميس بن زهير الكعبي» قبل أيام، والذي عرفه الناس والمدينة وتلامذته الكثر بـ «بن زهير»، حتى غاب اسمه الأول، واسم قبيلته، فلم يعد أحد يتذكرهما؛ لأن «بن زهير» غلب الاسم الأول والأخير، بدأ حياته بالتدريس وختمه بإمامة المسجد، وما كان يقوم به مطاوعة الأمس الطيبون من حلّ قضايا الناس، وإيجاد الحلول لشكواهم الدينية، وعقد القِران، وبعضهم كان يختص بالطب الشعبي والرقية والختان وقراءة المالد، وكتابة المَحْو، وعمل ختم القرآن في أواخر رمضان ووهبها لأموات الأهالي، كانوا متعددي المواهب ويقومون بقضاء حوائج الناس، والإفتاء بما أحرزوه من علم ودراية، كانوا يؤذنون ويصلون بالناس الصلوات اليومية والجمع والأعياد وصلوات الخوف والاستغاثة والاستسقاء، وكانوا يقرأون على المرضى عن طريق الشفاء بالقرآن.
بذلك الرحيل، تكون مدينة العين قد ودعت آخر المطاوعة الأولين، فقد تتابعوا وتتالوا واحداً بعد آخر، وبعضهم في صمت، بعد ما كبرت المدينة، وتعصرنت، وتلامذة المدارس القرآنية شبوا عن الطوق، وغادروها للدراسة في الخارج أو تولوا مناصب عليا، والبعض منهم لم يعد مخلصاً لتلك الدراسة الأولية والأساسية من تحفيظ القرآن ومعارف اللغة ونحوها وإعرابها، وأصبحت ألسنتهم ترطن أكثر مما تعرب، غاب معلموهم والمطاوعة التقليديون بتلك العصا الطويلة، والذي يعد الواحد منهم بمثابة الأب، وصوته الأعلى على الجميع، فإن قام بتأديب الابن، قال الأب: زده، ولا تسلم منه إلا العين والعظم، كان لدينا ذلك التعليم التقليدي الذي حفظ لنا اللسان العربي المبين، وصان لنا اللغة، كآخر خنادق الهوية الوطنية، ودفعنا للنهل من التعليم الأكاديمي والنظامي بسهولة ويسر وبغزر، كان الكثير منا يقرأ صباحاً في مدرسة نظامية، وعصراً في مدرسة القرآن أو أثناء الإجازة الصيفية، وحين يختم المصحف تعمل له حفلة تسمى «تومينة» حيث يطوف طلاب المدرسة القرآنية بنين وبنات دور ومنازل الحارة، وهو ينشدون ويهزجون بالتومينة: «الحمد لله الذي هدانا.. وسدد بالخير خطانا»، فيردد بقية الطلبة وراء المقرئ: «آمين»، وكل بيت يقدم لهم بالمستطاع إما مالاً أو معيشة أو بما توفر وتيسر، وحين يصلون منزل الذي ختم القرآن يقدمون الذبيحة والأكل، وينتهي طواف التومينة أو ختم القرآن.
لقد مر على مدينة العين معلمون ومعلمات مطاوعة ومطوعات عبر تاريخها، مثلها مثل المدن العربية القديمة، فقد كان التعليم الديني إلزامياً، وفرض عين، لا فرض كفاية، لكن للحياة أحياناً وغالباً منطقها، فينفر من التعليم الكثير، ويجبر على العمل منذ الصغر الكثير، فتضيع الأمور، لكن في النهاية لا بد من مطوع، ولا بد من دارسين، وحافظين، وخاتمي القرآن، من تسعفني الذاكرة بأسمائهم من مطاوعة ومعلمي القرآن في مدارسهم البدائية، إما بجانب مسجد الحارة أو في منازل المطاوعة أو تحت شجرة كبيرة وقديمة تظلل الجميع أو يقوم أحد المحسنين ببناء عريش ليكون مدرسة تضم الأولاد والبنات، وتكون الدراسة شبه مجانية إلا من «خميسية» مما تجود به أيدي الأهل للمطوع، مما يمكن أن يتوافر من غذائهم أو ما في مخازن المئونة أو ما توفره دجاجات البيت أو عملات نحاسية أو فضية من عملات هندية كانت تسك خصيصاً لدول الخليج، وقيمتها محلية لا تساوي «آردي أو قروني أو جرخيه أو بيزه أو آنه حمراء».
مطاوعة الزمن الجميل «أحمد بن ثاني المهيري، وسالم الكندي، وبن هلال الكويتي، وسلّام، وسالم العُماني، وجمعة بن طبير، وربما كان معه أخ آخر احترف المهنة ذاتها، وبن زهير، والمطوعة كَنّه بنت سعيد بن بروك الخميري، وأحمد بالعبد، والمطوعة العبدة السويدي»، وكان هناك على أطراف مدينة العين مطاوعة ومطوعات، الله يرحمهم جميعاً، فقد غادرونا بجميلهم وفضلهم وإحسانهم، وخيرهم العميم، كانوا مضحين ورواد وطلائعيين قدموا الكثير في زمنهم الشحيح والقليل، فليتنا نتذكرهم بلافتة شارع أو لوحة مدرسة أو اسم مسجد، فهم يستحقون الكثير، أقله أن نتذكرهم ونخلدهم بعملهم وعلمهم وتضحيتهم الإنسانية.