من الزيارات التي تتعفر فيها الأقدام باتجاه قبور وأضرحة أولياء الله الصالحين والقديسين والأحبار والكهان وأماكنهم التي تحظى بمنزلة دينية، زيارة «غرقة القليس» في صنعاء، تلك الكنيسة التي كان يضرب بها الوصف والمزينة بالأبنوس والزمرد والأحجار الكريمة، وكيف غدت اليوم يباباً، والتي بناها تُبّع اليمن لتكون مكاناً ومزاراً للحج بدلاً من مكة، وأرسل جيشه بقيادة «أبرهه» ليهدم الكعبة، وزيارة لجزيرة جربة في تونس حيث كنيس «الغريبة»، مزار اليهود، وقبر أبو حصيرة في مصر، والذي يتنازع عليه اليهود والمسلمون لأن كل فريق يعتقد بنسب أبي حصيرة له، حتى أوقفت الحكومة المصرية الزيارات له، وهناك دور للبهائيين في دلهي وعكا، وحضور ليلة المولد أو الليلة الكبيرة في القاهرة، وزيارة المندائيين أو الصابئة وطقوس الماء والتعميد في محافظة ميسان، وزيارة نهر الغانج المقدس في حشد الهندوس السنوي، وزيارة المعبد الذهبي للسيخ، وزيارة شهداء بدر وأحد وقبر حمزة بن عبدالمطلب.
لا أدري.. ربما شغفي بقبور الأولياء الصالحين يعود للطفولة، ولذلك الضجيج العالي في الرأس، والأسئلة المتراكمة مثل طلق الرصاص، فقد شهدت طفولتي ومدينتي يحرسها قبر من قبور أولياء الله الصالحين، فقد كان في جانب العين «قبر الولي» وكان الأهالي يزورونه ويتبركون به، ويذبحون الذبائح عنده، قبل النفط، ويقيمون عنده النهار بطوله، وتكون تلك الساحة المحيطة به غاشية، وتتحول لبيع وشراء، كان ذلك المنظر في الصغر، والذي ما استطاع أن يبرح الذاكرة، جزءاً من متعة كبرت معي، وقبل عامين فكرت في عمل سينمائي عالمي يخص الموضوع، فصورت الجانب التسجيلي منه في مدن عدة، والتقيت أناساً عاصروا الفكرة، وبعضهم كان جزءاً منها، وحرصت على زياراتٍ لأضرحة ومقامات وقبور للأتقياء في المدن العربية ومدن دول آسيا الوسطى وتركيا، حتى اتضح الموضوع من كل جوانبه، وبقي الجانب الروائي منه بحاجة لتكملة إنتاجية سينمائية، بعض الصور الطفولية نحملها معنا في مشوار الحياة، وتصبح حلماً، ولا نرتاح حتى تبصر النور.
من الزيارات الجميلة والتي لا تنسى، زيارة مدينة مولانا جلال الدين الرومي «قونية» التي تبعد نحو سبعمائة كيلو متر عن إسطنبول في وسط جنوب الأناضول، كانت عاصمة السلاجقة، مساحتها تزيد على أربعين ألف كيلو متر مربع، اشتهرت بمعركة «قونية» عام 1832م، حيث انتصر فيها الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد علي على الجيش العثماني، وبذا استقلت مصر والشام عن الإمبراطورية العثمانية، وفق اتفاقية «كوتاهية»، هي مدينة تاريخية وقديمة جداً، كان يلجأ لها رجال الدين ورسل المسيح وحواريوه مثل «بول وبرنابا» بعد اضطهادهما، مرّ عليها الروم والبيزنطيون والفرس والعرب المسلمون ثَمّ العثمانيون الأتراك، وأول من غير اسمها معرباً من «اكونيوم» إلى «قونية» مسعود الأول عام 1134م، ما يميز هذه المدينة غير سجادها التقليدي، هو وجود ضريح مولانا جلال الدين الرومي، الذي تقام له كل عام حضرة يؤمها الناس من كل مكان في العالم في شهر ديسمبر لأسبوع، حيث تقام رقصات المولوية التي ترجع لمبدعها صاحب كتاب «المثنوي».
في هذه المدينة تتجلى الأشياء، وتصبح قريبة من ضلوع الصدر، تتكشف لك أشياء، وتزيد من بصيرة الروح، ولا تخرج منها، إلا وجسدك طاهرٌ مثل ثوب أبيض كالكفن.