كان يجب أن يحدث هذا الذي حدث في ثالث أيام المونديال، وقد وُصف على أنه إعجاز عربي، أن يهدينا «الأخضر» السعودي مباراة أسطورية، ويحقق فوزاً تاريخياً أمام منتخب أرجنتيني، يجر خلفه تاريخاً طويلاً من الإنجازات العالمية، وتدور حول كوكبه العديد من الأقمار الباهرة، وأن يُحلق «نسور قرطاج» بعدها مباشرة بنقطة غالية جداً من مباراتهم أمام الدنمارك، لنشهد تشكيلاً من التوصيفات والتسميات، فمن تحدث عن زلزال بسبع درجات خضراء على سلم المفاجأة، ومن قال إن «الأخضر» السعودي حقق فوزاً إعجازياً على الأرجنتين، ومن قال أيضاً إن «النسور» خطفوا نقطة من فم «الحوت» الدنماركي.
لا أستغرب ما تداعى على الصحف والمواقع والمنصات من قصائد شعر نظمها السعوديون والعرب افتخاراً ومباهاة بصقورهم، ومن تغنٍ تونسي وعربي بالمباراة البطولية التي نسج فصولها «نسور قرطاج» أمام «الفايكنج»، إلا أنني أرى في هذا الذي كان العالم شاهداً عليه، في ذاك اليوم الذي طلعت من خيمته هذه البهارات العربية معطرة أجواء «المونديال»، ما يؤكد ما كنت دائماً أنصص عليه، من أننا كعرب متى وثقنا بأنفسنا، متى احترمنا بتواضع كبير لا مغالاة فيه منافسينا، متى سقطت كل الجدارات الوهمية التي تنتصب أمامنا، بمجرد أن نعقد المقارنات، حتى نصبح أسرى لها، متى لمع ضوؤنا في سماء كرة القدم.
تحدثت ليلة مواجهة المنتخب السعودي لـ «التانجو» الأرجنتيني لعدد من زملائي الإعلاميين السعوديين، فما وجدتهم إلا منصاعين للفوارق الصادمة التي تأتي بها الأرقام، آخذين بعين التفريق، أن منتخب الأرجنتين هو بطل للعالم مرتين، وهو الفريق الذي لم يخسر في آخر 36 مباراة، وأنه الفريق الذي يقوده الأسطورة والمذهل ليونيل ميسي، وما عرف زملائي وهم كُثر، أن كرة القدم هي الوحيدة التي تتمرد على المنطق، أقصد منطق الأرقام والمقارنات، وقد شاهدنا سقوط هذا المنطق في عشرات المباريات، بل إنه في مباراة السعودية والأرجنتين سيشيع إلى مثواه الأخير.
واستمتعت لكثير من زملائي التوانسة، وهم يقدمون لمباراة منتخبهم أمام الدنمارك، فلا يراهنون بفلس واحد على نسورهم ليروضوا الحيتان الدنماركية، تارة بسبب قلة تجربة مدربهم جلال قادري، وأخرى بسبب أن منتخبهم لا يتوفر على فرديات مميزة، وقد فاتنا جميعاً، أن «الجرينتا» والروح القتالية وجماعية الأداء يمكن أن تحقق ما بدا لنا مستحيلاً، وقد كان مستحيلاً على الكثيرين أن يتصوروا منتخب تونس منهياً مباراة الدنمارك وفي جيبه نقطة من ذهب.
إنها كرة القدم التي تعترف بنجم واحد، الروح الجماعية التي بفضلها يبطل العجب إن هزمت السعودية الأرجنتين، وإن تعادلت تونس مع الدنمارك، وما هي إلا بداية.