العاصمة الثانية من عواصم الرهبة والخوف، والتي كنت أهاب زيارتها بعد موسكو هي واشنطن، ولو لم أزرها فلن تشكل لي أي شيء أأسف عليه، زرتها لأول مرة قبل أحداث سبتمبر بعام، وهي مثل المدن الأميركية الأخرى التي لا ترى أثراً للسياسة على وجهها، ولا أحداث العالم يمكن أن تغير وتيرة يومها، وتفاصيل إيقاعها، فالسياسة الأميركية مكانها الأقبية الباردة، والمكاتب الزجاجية السميكة، وتلك الأبنية الخرسانية المضلعة، والأميركي كإنسان، بسيط وأقرب للصديق، نتيجة طبيعة المجتمع الأميركي المتعدد الأجناس والأعراق، والذي يعيش في مدن «كوزموبوليتانية» كونية، الكل فيها غريب لحين، حتى تتمكن منه المواطنة، ويرتبط بها كعادة يومية، وألفة للمكان، قد تغيرها الظروف، والمكاسب المادية، حيث السؤال السائد بين الأميركيين، ليس هل أنت أميركي، بل أنت من أي ولاية أو في أي مدينة ولدت؟ ولا يعنيه معرفة ما يدور في العالم، ولا في أميركا، بل المهم مدينته، ولو زار ساحر الكرة الأرجنتيني «ميسي» أميركا، فلن يتعرف عليه أحد، ليس كرهاً في كرة القدم الـ «سَكَر»، وتفضيلهم عليها كرة القدم الأميركية «فوت بول»، بل هي طبيعة الأميركي لا يهتم إلا فيما يعنيه، وأتذكر أن شرطياً كان مسؤولاً عن الملعب الذي تخوض فيه الأرجنتين مباريات كأس العالم في أميركا، وكان يومها الساحر الأرجنتيني الآخر «ماردونا»، فسئل عنه، وحاولوا أن يقربوا له المسألة ويبسطوها، فقال الشرطي: قد يكون أفضل لاعب في العالم، لكني لا أعرفه، وأفضّل أن أعرف كل تحركات الجمهور في ملعبي المسؤول عنه.
ثمة فروق كبيرة بين العاصمتين: موسكو العظيمة، وواشنطن المتواضعة على كافة الأصعدة، بدءا من المعالم التاريخية والسياحية والمتاحف والشوارع الزاخرة بالثقافة والمظاهر الاجتماعية، وانتهاء بجبروت العواصم التي تراكمت هيبتها على مر العصور، فموسكو على الدوام كانت مدينة مستقطبة كمركز لكل المبدعين في الفنون والآداب والسياسة والاقتصاد، في حين واشنطن واحدة من مدن المركز، وهي مدينة طاردة إلا للمتميزين في السياسة والإعلام، أما بقية المعارف والعلوم فتتوزعها مدن المركز الكثيرة في أميركا، وهي حديثة العهد تأسست عام 1790 على أرض فيدرالية لا تتبع أياً من الولايات، في حين «ماسكفا» أو موسكو تأسست عام 1147م، هذه الأرض الفيدرالية تبرعت بها ولايتا «فرجينيا» و«ميرلاند» على نهر «بوتماك»، واندمجت مع العاصمة جورج واشنطن عام 1871 ليصبح أسمها «واشنطن دي. سي» الذي جاء من اسم الرئيس الأميركي «جورج واشنطن»، و«دي.سي» تميزاً لها عن ولاية واشنطن في الساحل الشمال الغربي، والتي أكبر مدنها «سياتل»، ويعني المصطلح، «District of Columbia»، محلة أو ناحية كولومبيا، ومرجعها من اسم مكتشف أميركا «كولومبوس»، أما أسم أميركا فمرده للمكتشف الإيطالي «أمريكو فوسوبوتشي»، واتخذت أميركا بعد حربها الأهلية العديد من العواصم في مدنها المختلفة، نتيجة تنازع الشمال والجنوب حتى استقروا على بناء عاصمة جديدة محايدة على يد المهندس الفرنسي «بيير شارل لانفان»، واشنطن مدينة بلا رائحة، ولن تجدها تمد يدها لك، تعامل الناس حسب حجمهم الرسمي الراهن، ولو جاء الشخص ذاته زائراً، غير مثقل بوظيفة، فستضعه في خانة المارين العابرين، وقد لا تلتفت له.
هل تبدد الخوف، وزالت الرهبة بعد زيارة موسكو وواشنطن؟ أم ما زالت هاتان العاصمتان تشكلان للصغار ولغير العارفين بهما شيئاً من رهبة غامضة؟